لوركا: في ذكرى اغتيال قمر غرناطة!

علاء اللامي

عودة إلى «الشاعر القتيل» الذي ناضل من أجل الإنسان والجمال | فيديريكو غارثيا لوركا… أعمارُ إسبانيا وعهودها

علاء اللامي

(قولوا للقمر أنْ يطلع

 لا أريد أن أرى دمَ إغناثيو على الرمال،

لا أريد أن أرى دمه!) لوركا “مرثاة من أجل إغناثيو”.

تمر هذه الأيام ذكرى إعدام الشاعر الغرناطي الأشهر فيديريكو لوركا، من قبل الكتائب القومية الإسبانية “الفالانخ” في 19 من آب -أغسطس 1936. هذه الوقفة النثرية تحية متواضعة لذكراه مناضلا بشعره من أجل الإنسان والجمال:   

إذا كان الشاعر العربي القديم مالك بن الريب قد عُرف بأنه الشاعر الذي رثى نفسه بقصيدته التي مطلعها:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً *** بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا،

فإن لوركا تجاوز التنبؤ بمقتله ورثاء نفسه إلى استشراف تفاصيل ما بعد موته، حين توقع اختفاء جثمانه حتى يومنا هذا بقصيدة كتبها قبل إعدامه بأعوام قليلة:

وعرفتُ أنني قُتلتُ

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافنِ والكنائس

فتحوا البراميلَ والخزائن

سرقوا ثلاثَ جثثٍ

ونزعوا أسنانَها الذهبية

ولكنهم لم يجدوني قط!

ألم يعثروا عليَّ؟

نعم، لم يعثــروا عليَّ!

وفي قصيدة أخرى، قد تكون أحدث عهدا منها، يستبدل غرناطة بقرطبة وكأنه يلعب الغميضة مع موته:

ليمهلني الموت حتى أصيرَ في قرطبة

قرطبة الوحيدة البعيدة

آه، إنه الموت ينتظرني فوق أبراج قرطبة.

إذا كانت عملية البحث عن جثمان لوركا، قد انتهت الى الفشل سنة 2015، وظهرت نظرية جديدة للمؤرخ ميغيل كابيرو تفيد أن جثمان الشاعر ألقي في بئر بالمنطقة ذاتها، بضواحي غرناطة، ولم يعثر على أثر لبقاياه هناك فإن عائلته ومحبيه اعتبروا المنطقة التي أعدم فيها، إلى جانب آلاف المفقودين في الحرب الأهلية، مكان دفنه وأقاموا له فيها نصبا فنيا جميلا ومتواضعا. والعجيب، أن هذه المنطقة التي قتل فيها الشاعر كانت وماتزال تحمل اسما عربيا حزينا هو “عين الدمعة” (Aanidamar)[1] وقد تكون تابعة لبلدة فيثنار.

في السنوات الأخيرة، ظهرت روايات ضعيفة، وأخرى مضلِّلة ومنحازة ضد الشاعر، تحيل أسباب مقتله إلى خلافات مالية بين عائلته وعائلة غرناطية أخرى، ككتاب “الحقيقة حول مصرع غارثيا لوركا” للكاتب إيبرساف وآخرين، وأخرى تجرد جريمة قتله من البعد السياسي وتبرئ نظام فرانكو منها بالتركيز على البعد السلوكي والأخلاقي، كما في كتاب بيلا سان خوان المعنون “مصرع لوركا: كل الحقيقة”[2]. أما كتاب خيراردو روساليس التوثيقي والمعنون (صمت عائلة روساليس) فيمكن أن يكون مفيدا ويضيء لنا غموض الأيام الأخيرة للشاعر. فعائلة روساليس هي التي اختبأ عندها لوركا، لصداقته مع بعض أبنائها وكانوا من الفالانخيين، على أمل أن يحموه من جماعتهم.

يرتكز الكتاب على صور ورسائل والاستذكار الشخصي لكاتبها كأحد أحفاد الأسرة، وهمه الأول تبرير سكوت عائلته عن تلك الجريمة لسنوات طويلة. يؤكد روساليس أن عائلته حاولت فعلا الشفاعة للوركا لدى الكتائب لإنقاذه، ولكنها فشلت، فقررت التزام الصمت. يكشف المؤلف للمرة الاولى (عن رسائل من عائلته موجهة لقائد الفالانخ في غرناطة تتشفع بها للوركا وتصفه بالشاعر الاسباني الأهم، وصديق العائلة المخلص. وفي رسالة شديدة اللهجة، وجهها لويس روساليس – وهو شاعر وصديق للوركا – إلى قائد الكتائب بغرناطة طالبه بالإفراج عن لوركا لأنه متهم بلا دليل، والاتهام الوحيد يأتي بسبب الوشاية والحقد لا غير، ولأن لوركا شاعر يمثل إسبانيا بأكملها، وكان مدافعا عن حقوق الإسبان كلهم)[3].

ومعلوم أن اسم الشاعر وتراثه الأدبي وإعدامه أمور ظلت ممنوعة من التداول بإسبانيا طوال فترة حكم فرانكو. وبعد زوال الكابوس، رُفع الحظر وأعيد إليه الاعتبار، وجرت محاولات كثيرة للتدقيق في التفاصيل، كانت آخرها سنة 2015، حيث نشرت وثائق سرية أرشيفية تعود لعام 1965. اطلعت صحيفتا (Ser وEldiario.es )، منها وثيقة صدرت من “المكتب الثالث لدائرة الاستعلامات الاجتماعية” في قيادة شرطة غرناطة، يمكن اعتبارها ملخصا للاتهامات الموجهة للشاعر القتيل. و(هي تكشف اعتراف النظام الفرانكوي لأول مرة باغتيال الشاعر. والوثيقة عبارة عن رد رسمي على استفسار تقدمت به الصحافية الفرنسية مارسيل أوكلير للسفارة الإسبانية في باريس، حول وفاة الشاعر الغرناطي. فقامت السفارة بتحويل الاستفسار لوزير الخارجية فرناندو ماريه كاستيلا الذي طلب من وزير المحافظات كاميلو ألونزو فيغا بحث (إنْ كان بالإمكان فتح أرشيفنا المُتعلق بقضية لوركا) وتمت الموافقة: وُصِفَ لوركا في الوثائق بأنه (اشتراكي وماسوني ومثلي جنسيا) وتعترف الوثيقة بخصوص تهمة المثلية بعدم وجود أية تفاصيل أو وقائع محددة، بل تستند على شائعة، رغم أنَّ الملف الخاص بلوركا يحتوي على ما يؤكد أنه كان مراقبا من قبل الشرطة لفترة طويلة، ولكن التقارير تخلو من أية تفاصيل حول ذلك. بينما اعتمد التقرير بخصوص ميول الشاعر الاشتراكية إلى عمله في ديوان الوزير دي لوس ريوس الذي اعتنق هو الآخر مبادئ الحركة الماسونية)[4].

قالت تلك الوثائق، إن لوركا (ماسوني ينتمي لمحفل “الحمراء” الذي اتخذ فيه الاسم الرمزي “هوميروس”، وتُجهل المرتبة التي وصلها بهذا المحفل. وكان يُنسبُ إلى الاشتراكيين بسبب ميول مواقفه وعلاقته بفرناندو ديلوس ريوس إضافة لعلاقاته الوثيقة بزعماء من التيار السياسي نفسه). وتضيف الوثيقة أن (الحركة القومية المجيدة باغتته في هذه المدنية بعد أيام على وصوله إليها قادما من مدريد، وتعرض منزله لحملتي تفتيش، ما دفعه للشعور بالخوف واللجوء لمنزل صديقيه الأخوين روساليس وهما فالانخيان سابقان). هذه الوثائق تتناقض تماما مع تصريح صحافي شهير لفرانكو نفسه والذي قال فيه سنة 1937، ردا على صحافي سأله حول سبب إعدام لوركا فقال (مات ذلك الكاتب بسبب الخلط بينه وبين أحد المنشقين، إنها من الحوادث الطبيعية في الحروب، واستغلت الدعاية الشيوعية تلك الحادثة لإثارة عالم الفكر والثقافة ضدنا)[5]!

واضح حتى للأبله، أن ما تقوله هذه الوثائق الرسمية الفاشية من اتهامات من قبيل (اشتراكي وماسوني ومثلي) لا تختلف في تهافتها وتفاهتها عن تبريرات فرانكو نفسه، فهي ليست إلا حشو كلام لتشويه سمعة الضحية من قبل شرطة محلية ومليشيات قومية حاقدة وجاهلة. فالمعروف أن لوركا لم يكن حزبيا، ولم ينتمِ في حياته لحزب اشتراكي أو شيوعي بل كان شاعرا وكاتبا مسرحيا ورساما وعازفا موسيقيا معروفا، وكان صديقا للجميع وبشكل خاص لليساريين أيام مدِّهم وانخراط غالبيتهم في التيار الجمهوري التقدمي، وبمقدمتهم روفائيل البرتي، الشاعر الشيوعي المعروف، والعضو المؤسس لتحالف “المثقفين لمناهضة الفاشية”، وصديقه الشاعر الشيوعي التشيلي نيرودا، الذي ترشح لرئاسة الدولة ممثلا لحزبه، فما الذي يمنع لوركا من إعلان كونه اشتراكيا أو شيوعيا آنذاك؟

السبب، ببساطه، لأنه لم يكن منتميا لهما، بل كان ينتمي إلى عالمه الأوسع، عالم الأدب والفن المنشغلين بالإنسان والجمال، أو كما قال هو برسالته النيويوركية “أنا شاعر الفلاحين”. هنا، نجد شبها قويا، بين محاولات حشر لوركا في قناني الحزبية الضيقة، من قبل أصدقائه وأعدائه معا، وبين محاولة حشر الروائي فرانز كافكا بالحركة الصهيونية من الكاتب الصهيوني ماكس برود، الذي وصفه الروائي التشيكي ميلان كونديرا بالكاتب الفاشل والنصّاب الكبير، وتؤكد ذلك صرخة كافكا في إحدى رسائله (إن أوضاعي لا تحتمل، وهي تتناقض مع ميولي ورغباتي الوحيدة وأعني بذلك الأدب. الأدب هو كل كياني ولا أريد ولا أستطيع أن أكون غير ذلك).[6]

أما اتهامه بالمثلية الجنسية، فهي ليست إلا فرية سخيفة ألصقها به القتلة أنفسهم، وجمهورهم لاحقا ومن باب تشويه سمعته، حين كانت هذه التهمة في الثلاثينات تؤدي بالمتهم للإعدام بالدول المحافظة ومنها إسبانيا. 

إن السائد في الساحة الأدبية والسياسية الإسبانية، هو أن هذه التهمة لم تُذكر أو توجه للوركا قط إلا بعد انتصار انقلاب فرانكو وهزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية بعقدين. أما قبل ذلك فلم يرد ذكرها حتى في كتابات أشد اليمينيين عداء للوركا ولليسار والجمهوريين. وربما كان للحوارات الفنطازية والفضائحية واللاأخلاقية للرسام سلفادور دالي التي أدلى بها للكاتب الفرنسي “ألان بوسكيه”، ونشرها هذا الأخير بكتاب 1960، أي بعد ربع قرن على مقتل لوركا، أقول، ربما كان لها دور في الترويج لهذه الفرية المسمومة والتي تبقى شيئا صغيرا وشديد الخصوصية في سيرة شاعر وفنان عظيم وصديق شجاع للإنسان وقضاياه، ولا يترتب عليها أي حكم معياري بحقه كإنسان شديد النقاء والنبل.

إن سلفادور دالي الذي كان يرتبط بلوركا وبغيره من المبدعين الإسبان والفرنسيين بعلاقات صداقة قوية في سنواته الأولى، معروف بمبالغاته السلوكية المجنونة والفضائحية، وتصل لأدنى درجات الانحطاط والخروج على العقل والمعنى رغم عبقريته الفنية، الأمر الذي دفع الحركة السوريالية التي كان عضوا فيها الى طرده من صفوفها، بعد أن اتضحت معتقداته الرجعية الظلامية. ومن تلك المعتقدات تأييده لإبادة السكان الأصليين بأميركا، وإعجابه بهتلر ورسم لوحات له، وتأييده لفرانكو الذي لم يبخل عليه بالعديد من الأوسمة ومنها “وسام الصليب الأكبر لرهبانية إيزابيلا الكاثوليكية” ووسام “الصليب الأعظم لفرسان شارل الثالث” إضافة لتصرفاته الجنونية المعروفة للجميع.

كان لوركا قد أحب آن ماريا، شقيقة سلفادور دالي، خلال إقامته في منزل العائلة في “قداقش” لفترة، ولكنها صدته ولم تتجاوب معه (وقد أثرت تلك العلاقة على حياته العاطفية. ورغم أن المعلومات عن هذه العلاقة غير واضحة، إلا أن كثيرا من مؤرخيه يرجعون أزمته العاطفية في عام 1929 إلى فشل هذا الحب وتحطمه، والتي لم يجد الشاعر دواء لها إلا السفر من بلاده إلى نيويورك حيث قضى عاما وبعض العام في الخارج)[7]. ولم ينسجم لوركا مع الحياة هناك (إذ صدمته الحضارة الأمريكية، حين اكتشف إن (عددا قليلا من المصرفيين عديمي الضمير هم من يملكون العالم)[8]، فعاد منها إلى وطنه بعد جولة في عدد من دول أميركا اللاتينية.

إنها خلطة ساذجة هذه الاتهامات (اشتراكي وماسوني ومثلي)، فندها الناقد الإيرلندي من أصل إسباني إيان جبسون الذي عُرف (بأعمال متميزة حول الشاعر الإسباني لوركا، إذ أصدر سنة 1971 سيرة مهمة وموثقة عن الشاعر تُحقق، بصفة خاصة، في تفاصيل مقتل لوركا لكن نظام الجنرال فرانكو منع توزيع الكتاب في إسبانيا)، ويرى – جبسون -أن سبب إعدام لوركا يوجد في مكان آخر. فلنتابع:

أصدر جبسون كتابه “جريمة قتل غارثيا لوركا” عن دار “أغيلار” في مدريد عام 1979، بعد موت فرانكو بأربع سنوات، نفى وفند فيه (كل المزاعم السابقة، والتي مازالت رائجة حتى اللحظة حول مثليّة لوركا وعدم اهتمامه بالسياسة. وأثبت جيبسون ببعض الوثائق والمستندات التاريخية أن لوركا كان مسيّساً وصاحب مواقف مشهودة، بل إنه كان أقرب للاشتراكية و اليسار، وله غير بيان وغير خطبة تنمّان بجلاء عن التزام في الشعر وفي الحياة)[9]. ولكن جبسون، وبصفته كاتب السيرة الأكثر اعتمادا للشاعر، لم يبالغ إلى درجة الجزم بأن لوركا كان اشتراكيا وحزبيا منظما، بل وصفه بكل بساطة بأنه كان “أقرب للاشتراكية واليسار”.

من سيرة لوركا التي كتبها جبسون والتي ترجمت للعربية بعنوان “غرناطة لوركا”، أدرج هنا هذه فقرة التي يصرح فيها بالسبب الأهم لاغتياله (في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، وقبل أسابيع قليلة من اغتيال لوركا في آب 1936، سُئِل الشاعرُ عن رأيه في سقوط غرناطة بأيدي الإسبان عام 1492، فأجاب: كانت نكبة – يوما أسود-، رغم أنّهم يلقنوننا العكس بالمدارس: حضارة رائعةٌ، وشعرٌ، وفلكٌ، وعمران، ورقةُ شعور فريدةٌ في العالم، ضاعت كلّها، لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي “جنّة البخلاء”، والتي يلعب بمقدراتها الآن أراذل البرجوازيين في إسبانيا”. ظهر هذا التصريح على صفحات أكبر جريدة بمدريد، فكان سبباً مباشراً في موت الشاعر وهو في الثامنة والثلاثين[10]). ويضيف جبسون (وقبل خمس سنين من ذلك، قال لوركا “أعتقد أنّ أصلي الغرناطي منحني شعوراً بالتآخي مع جميع المضطهدين غجراً وسوداً ويهوداً، ومع المورسكيين “المغاربة” الذين نحفظ ذكراهم نحن الغرناطيين في قلوبنا” لا شك في أنّ الشاعر كان على علاقة وثيقة بغرناطة التي ضاعت إلى الأبد عام 1492).

الشاعر التشيلي نيرودا روى في مذكراته كيف استشرف لوركا موته من حادثة غريبة ودامية وقعت له (حين عاد لوركا ذات مرة من جولة مسرحية قام بها، ناداني كي يقص عليّ حادثة غريبة جداً. كان قد وصل مع فناني فرقته “لا براكا” إلى قرية نائية جداً في قشتالة، فنزلوا في جوار القرية وهناك خيّموا. حين تفتّق الفجر قليلاً نهض من فراشه وخرج كي يقوم بجولة وحده عبر الحقول المترامية هناك. كان ثمة برد لاذع كحدّ السكين. كان الضباب ينطلق سحائب بيضاء تحيل كل شيء إلى مداه الشجي الرهيب. توقف فيديركو عند باب عتيق كان مدخلاً إلى مزرعة فسيحة. كان الخلاء والخواء والوقت والبرد تجعل الوحشة أكثر رهبة. هناك جلس فيديريكو على تاج عمود ساقط. جاء خروف صغير ليقضم أطراف الأعشاب بين الأطلال والخرائب. كان ظهوره ظهور ملاك صغير من ضباب يؤنس الوحشة. فجأة وإذْ بقطيع خنازير يجتاح الحظيرة. اقتربت أربع أو خمس بهائم داكنة اللون، خنازير شبه متوحشة جائعة وذات أظلاف صلدة. انقضت الخنازير على الخروف تعمل فيه أنيابها، فقطعته إرباً إرباً والتقمته وفيديريكو يرتعد خوفاً. عندما عاد إلى فرقته المسرحية المتجولة أمرها بمواصلة السير على الفور)[11].

نيرودا، كان على موعد معه في اليوم التالي، لكنه لم يأتِ، بل ركب القطار ليلا إلى غرناطة حيث سيذبح القمر. ودعه روفائيل إلبرتي ليلتها، ولاحقا كتب نيرودا (كل شيء بدأ بالنسبة لي ليلة 19 من تموز 1936. أقنعني بوبي ديلانغه أن أذهب الى السيرك وأن أصطحب لوركا معي هناك، لنتأكد من أصالة هذا الاستعراض الجميل. اقنعت لوركا واتفقنا على ان نلتقي هناك في ساعة محددة. تخلف لوركا عن الموعد. كان قد راح ليلقى حتفه، لم أره بعد ذلك أبدا. كان موعده مع مردة وسفاحين آخرين. هذا بدأت حرب إسبانيا بالنسبة لي باختفاء شاعر…وأي شاعر! لم أرَ شاعرا مثله اجتمعت فيه اللطافة والعبقرية، القلب المجنح والشلال الشفاف. كان لوركا العبقري المُسرف في وحيه وإلهامه، بؤرة الفرح التي تشع كالكوكب بسعادة الحياة. كان نابغةً وفكهاً كونياً وريفياً، موسيقياً فذاً وممثلاً رائعاً، كان فزعاً ومعتقداً بالخرافات، لامعا ونبيلا، كان خلاصةَ أعمارِ إسبانيا وعهودها، صفوة ازدهار الشعبي، نتاجا عربيا أندلسيا ينير ويفوح مثل أيكة ياسمين على مسرح أسبانيا، كل هذا، ياويلتي لقد اختفى …فأواهٍ وآه…إنَّ فيدريكو غارثيا لوركا لم يعدم رميا بالرصاص بل اغتيل)[12]!

يتمادى لوركا الشاعر الساحر في لعبته الخطرة مع الموت، فيستشرف مكان موته الشبيه بمنطقة “عين الدمعة (Aanidamar)” حيث قتل ودفن تحت الأشجار” ولكن أحدا لم يعثر على قبره حتى الآن، وما يزال لوركا يسألنا: أين قبري؟!

عَبْرَ أشجارِ الغار

تطيرُ حمامتانِ دكناوان

كانت أولاهما الشمس

والأخرى كانتِ القمر

قلتُ لهما: أيا جارتيا،

أين قبري؟

قالت الشمس: في ذيلي

قال القمر: في حلقي.[13]

هامش: لم أتعامل في هذه الدراسة مع الروايات والأعمال الأدبية التي عالجت حياة لوركا ومصرعه كمراجع، لأنها تبقى أعمالا أدبية بالدرجة الأولى، ولا يعول عليها في الدراسات والأبحاث الاستقصائية. ولكنني أشير إلى واحد من هذه الأعمال على سبيل التعريف به لأهميته ولأن مؤلفه اعتبره رواية توثيقية. أقصد هنا الرواية الشهيرة للكاتب الإسباني جوزيه لويس دي فيلالونغا والتي تحمل عنوان ” الهيجان”.

لقد قرأت ترجمة هذه الرواية قبل سنوات عديدة، وتأثرت بها تأثرا شديدا، لشدة واقعيتها ولقوة النفس التضامني الذي كتبت به. وقد عدت إليها خلال كتابتي لهذه الدراسة لاسترجاع بعض الأحداث. قلت إن الروايات الأدبية لا يعول عليها هنا، رغم أن صاحب “الهيجان” أكد في مقدمة روايته أنه كتبها بناء على شهادات شهود عيان، وأنه تأكد من صحة ودقة تلك الشهادات عبر مقارنتها بشهادات أخرى، وقد جعل الراهبة نور أبنة فونيسكا مساعد القائد الفالانخي الذي حكم عليه بالموت القومندان في سلاح المشاة فالدز، جعلها هي بطلة الرواية التي تبوح بأسرار محاكمة الشاعر وإعدامه كما سمعتها من والدها. وسبب عدم التعويل عليها هو أن كاتبها فيلالونغا لم يوثق كلامها وكلام الشخصيات بأية طريقة كانت حتة لو كان ذلك بنشر وثائق خارج النص كملاحق، ولهذا فلن يكون للاستشهاد بها أية قيمة ومعنى لأنه قدم عملا أدبيا صرفا لا يمكن التعويل عليه استقصائيا.

غير أن الخلاصة التي نخرج بها من قراءة الرواية على اعتبارها وثيقة تاريخية – وهو اعتبار غير ملزم بحثياً ولكننا نقوله مجازا – هي الخلاصات ذاتها التي أكدها كاتب سيرة لوركا إيان جبسون سالف الذكر، والتي مفادها أن اغتيال الشاعر كان جريمة سياسية من الدرجة الأولى، ولا علاقة لها بكل ما يقال عن خلافات عائلية وعشائرية واتهامات أخلاقية رصدها فيلالونغا في روايته كشتائم يوجهها قادة وعناصر مليشيا الكتائب لضحيتهم. تبرز هذه الخلاصة في مشهد التحقيق أو المحاكمة التي أجريت للوركا. وهي كما قال أحد الباحثين أقرب الى الدردشة بين مجرمين قبل الإجهاز على ضحيتهم، منها إلى المحاكمة، يقص علينا المؤلف الأحداث والحوار الذي جرى بين االقومندان فالدز ومساعده فونيسكا والشاعر. ومنه أقتبس باختصار شديد:

فونيسكا: سيدي الحاكم هو ذا لوركا.

فالدز: “للوركا” : أنت كما أعتقد مؤلف قصة “الحرس المدني الإسباني”؟

لوركا: نعم، هو أنا.

فالدز : قل يا سيدي.

لوركا: نعم يا سيدي.

ثم يجبر الحاكم لوركا على قراءة مشهدا من القصة حول الغجرية التي تجلس أمام بيتها، بعد ان داهمت قريتهم قوات الحرس المدني، وأمامها نهداها المقطوعان على طبق…وبعد حوار طويل واستفزازي بين القومندان ذي الفكر القومي المتعصب والشاعر الأعزل يقول فالدز:

فالدز: اسمع يا فونيسكا.. ويأخذ بقراءة نص كتبه لوركا وقال فيه (أنا أخٌ لجميع الناس وألعنُ الرجلَ الذي يضحي بنفسه من أجل فكرة قومية مغلقة وتعصبية…إنني أتغنى بوطني إسبانيا، وشعور حب الوطن عميق، متأصل حتى العظام، ومع ذلك أبقى أولا وقبل كل شيء مواطنا عالميا “أمميا” وأخا لجميع الناس).

فالدز: غارسيا لوركا، أنا أقررُ إدانتك بالخيانة لبلدك ومسقط رأسك، إضافة الى كونك مدانا تجاه طبقتك… مدان تجاه كل الذين ضللتهم بكتاباتك…وأحكم عليك بألا تكتب إطلاقا بعد اليوم.

لوركا: إطلاقا؟

فالدز: نعم إطلاقا!

لوركا: الموت أحب إليَّ…

فالدز: هل هذه رحمةٌ تسألني إياها؟

لوركا: الموتُ أحبُّ إليَّ.

فالدز: اتفقنا إذن، حتى لا يقال عني أنني رجل بلا قلب…فونيسكا، هذه أوامري الخطية … أعمل اللازم! (الهيجان ص 179 – 185).

ثم أخذ فونيسكا ومسلحوه الشاعرَ إلى الإعدام بحقول غرناطة ولكن في غياب قمر غرناطة كما تمنى…

*كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *