كلود مونيه: مصادر الإلهام (نينا رالف) عن: Daily Art Magazine

ترجمة الشاعر الليبي: علي الربيعي

كلود مونيه: مصادر الإلهام
(نينا رالف)
عن: Daily Art Magazine

قد يشعر المرء في وقتنا الحاضر بأنه محشور بشكل ما في ذلك الحيز الضيق الذي قد يمنحه كل من البيت والحديقة. بيد أن فنانا عظيما مثل كلود مونيه كان قد تمكن في السابق من استغلال حديقته الجميلة ومنزله الرائع كمصدرين مذهلين للإلهام,
مصدران مدهشان ألهما الفنان رسم الكثير من لوحاته الفنية الرائعة, ومن هنا, سوف يكون بمقدورنا جميعا التعلم والاستفادة من تلك الطريقة التي اعاد من خلالها انتاج الطبيعة في رسم بعضا من اجمل اللوحات في تاريخ الفن.
قبل بضع سنوات, حظيت بفرصة تمكنت خلالها من زيارة منزل وحديقة كلود مونيه الكائن في جيفرني بفرنسا. حيث قام مونيه اكثر من أي فنان آخر عرفته, من استغلال تلك المساحة المحيطة بمنزله كمصدر اساسي للإلهام لرسم وإنجاز اغلب اعماله الفنية المذهلة. وخلال هذا الحظر الذي نشهده حاليا بسبب جائحة كورونا, سوف يكون من السهل علينا أن نرتبط على نحو خاص بتلك الكيفية التي استغل مونيه من خلالها الطبيعة التي كانت في متناوله. والتي قام الفنان بنقلها على نحو مذهل من محيطه إلى لوحات فنية من شأنها أن تغير بشكل جذري تلك الطريقة النمطية التي ننظر من خلالها إلى اللون والمناظر الطبيعية.
نشأ كلود مونيه في لوهافر في نورماندي, حيث اكتسب هناك سمعة جيدة كفنان يختص في انتاج لوحات المناظر الطبيعية, ففي العام 1860 وفي بداية حياته المهنية, كان قد درس الرسم في باريس ثم قرر بعد ذلك, التركيز بشكل خاص على طريقة ” plein-air ” وهي طريقة تعتمد على الرسم في الخارج حيث الهواء الطلق.
وبعد ذلك عاش لفترة وجيزة في لندن ثم عاد إلى باريس مرة اخرى, ليستقر اخيرا في ريف جيفيرني الواقع على بعد 50 ميلا عن باريس, والجدير بالذكر, إن البيئة المحيطة هناك كانت قد اتاحت للفنان فرصة استكشاف الطبيعة في اصدق صور لها.
وكما هو معلوم , فقد كان مونيه رائدا للحركة الانطباعية الفرنسية, بالإضافة إلى أنه عاش هناك لفترة من الزمن امتدت إلى 43 عاما, وذلك منذ العام 1883 وحتى مماته في 1926 . حيث قام بإجراء توسعة كبيرة للمنزل لتناسب وتلائم ذوقه الخاص, واراد بذلك أن يخلق مساحة تمكنّه من العيش فيها ورسمها في آن, لقد كان مرسمه في ملحق خاص بالمنزل والذي ضمّ حماما وغرفة نوم خاصة . وبذلك, كان يعيش على الدوام تلك الحالة الفريدة الناجمة عن الوجود المستمر لمصدر إلهامه الخاص من أجل الرسم والإبداع.
وفي الواقع, فقد قام مونيه نفسه وبشكل فريد تماما, بتزيين منزله بمجموعة كبيرة من اللوحات الرائعة التي قام برسمها فنانون انطباعيون آخرون كمصدر آخر للإلهام, من امثال “مانيه” و”سيزان” و”سيسلي” وفنانون آخرون.
وبالإضافة إلى ذلك فإن احدى الصور المرفقة هنا تظهر أول مرسم اقامه مونيه. والذي اصبح في وقت لاحق غرفة خاصة بالتدخين , والتي لم يكن يستخدمها إلا عند استضافته للزوار من تجار ونقاد وهواة جمع الفنون.
وعلى الرغم من عدم وجود أية اعمال اصلية في منزل الفنان اليوم ,إلا أن نسخا من لوحاته الموجودة في كل ارجاء البيت, يمكنها أن تساعدنا على فهم كيف كانت ستبدو بالنسبة إلى مونيه. ففي وقت لاحق تم تزيين كل غرفة في المنزل بشكل جميل ورائع, بحيث عُدّ المنزل نفسه مشروعا فنيا له. فكل غرفة كانت تتفرد بلوحة ذات خصوصية في اللون, أما في المطبخ فقد تم استخدام ادوات بعينها بحيث يمكنها أن تساعد في عملية “تكرار” حالة البيت الأصلية حين كان يعيش فيه مونيه.
وبلا ادنى شك, فإن التصميم الداخلي لكل غرفة, كان بالنسبة إلى مونيه بمثابة طريقة مميزة للإبداع. فعلى سبيل المثال كانت كل التفاصيل, بدءا بورق الحائط واللوحات المعلقة على الجدران و الأثاث, وحتى الإطلالة الرائعة على المناظر الطبيعية المدهشة لكل نافذة على حدة, كانت كلها مدروسة بعناية فائقة, بحيث اصبح المنزل نفسه عملا فنيا في وسعنا التفاعل معه حتى يومنا هذا.
لقد كانت طريقة مونيه في الرسم في الهواء الطلق تعني بشكل قاطع أنه قضى معظم وقته في الرسم في حديقته, مفضّلا تلك المساحات الخضراء الفاتنة على أيّ مكان آخر أو أية طريقة اخرى للإبداع. وكان هذا المكان تحديدا موضوعا للعديد من اعماله الأكثر شهرة على الإطلاق والمعروفة بـسلسلة “زنابق الماء” والتي تضم اكثر من 250 لوحة زيتية ضخمة تنتشر حاليا في العديد من المعارض والمتاحف حول العالم. وبالتالي لن يكون مستغربا في وقتنا الحاضر رؤية زوار منزل مونيه وهم يتدفقون على الفور إلى حيث الجسر من أجل مشاهدة زنابق الماء المدهشة.
بعد عشر سنوات من انتقال الفنان إلى منزله في جيفرني, قرر انشاء حديقة مائية ذات طابع آسيوي, ولتحقيق ذلك, قام بتحويل المياه من نهر محلّي إلى حديقته, وقام بعد ذلك بترتيب الزهور والشجيرات الصغيرة والأشجار الكبيرة بعناية شديدة, وذلك من أجل خلق وابتكار المناظر التي ارادها تماما. وبهذه الطريقة, فقد عُدّت الحديقة أيضا عملا فنيا بذاته. وسوف يكون بمقدورنا أن نرى بشكل واضح أي مصدرٍ كان قد شكّل إلهاما لا ينضب بالنسبة للفنان. ومن وجهة النظر ذاتها التي كانت لدى مونيه ذات يوم, فإن هذه التجربة تعد مثالية وشديدة الندرة.
وبالمثل, كان ثمة عنصر آخر قد تكرر رسمه في العديد من لوحاته الرائعة, وهو الجسر الذي ينحني بكل نعومة من فوق البركة. وهنا يمكننا أن نتساءل فيما إذا كان لدى مونيه أية فكرة عن مدى رمزية صورة الجسر, حيث اختار سنة 1895 أن يكون الجسر الخشبي على الطراز الياباني, والذي لايزال بمقدور زوار منزله المشي عبره حتى يومنا هذا. ويجدر القول إن اشهر اعماله الفنية التي تضم الجسر, موجودة حاليا في المعرض الوطني في لندن وفي المعرض الوطني للفنون في واشنطن.
وعلى الرغم من معاناته من حالة العَتم التي طالت كلتا عينيه عندما ناهز سن 72 , إلا أن مونيه كان قد ابدع في خلق الجمال حتى نهاية حياته, فقد عانى من مشاكل بصرية منذ العام 1905, الأمر الذي منحه تصورا فريدا للّون, وغالبا ما يشير مؤرخو الفن إلى تلك الفترة للفنان بالمصطلحين ” الفترة الزرقاء” و “الفترة الحمراء”. وبشكل عام فإننا نتذكر مونيه اليوم كواحد من ابرز المبتكرين المذهلين للّون على مر العصور.
وفي الختام, فإننا خلال الأشهر القليلة الماضية من الحظر كنا مقيدين ومحصورين تماما في بيوتنا, فيما كان البعض محظوظا كفاية لامتلاك حديقة تخصه, بينما اعتمد البعض الآخر على مشاهدة الطبيعة فقط من خلال نوافذهم,
وبالتالي يمكن أن يُعجَبَ الجميع بالطريقة التي استغل عبرها مونيه منزله والحديقة, بحيث كرّس جزءا كبيرا من حياته لابتكار وخلق هذه المساحات الرائعة, والتي اصبحت بالتالي الركيزة الاساسية لفنه, لذلك, كل الإلهام الذي كان بحاجة إليه كان موجودا مباشرة عند عتبة بابه.
ومع استمرار حالة الحظر التي قد يشهدها العديد منا, سيكون في وسعنا أن نُعجَبَ ونعيد خلق الجمال الذي نراه حتى في الأماكن الضيقة والمساحات الصغيرة من حولنا, فبعد هذه التجربة العصيبة ربما سيكون من الممكن أن نقدّر الطبيعة على نحو افضل أكثر من أي وقت مضى.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *