صورة
كريم جواد
“هييه، لوسمحت.”
تناهت إلي العبارة من مسافة. لم أتوقع أن تكون موجهة لي. واصلت فرك شعري بمنشفة، جالسا على الكرسي القماش الذي انغرست أطرافه المعدنية في حصى ناعم بمواجهة البحر. زوجتي ممدة على طرف الحصيرة النايلون التي تبعثرت عليها مناشفنا وقطع الغيار وأكياس طعام بلاستيكية، وأشياء أخرى بات يصعب تبينها تحت المظلة، بعد أن مالت الشمس إلى المغيب.
“لو سمحت.“
جاءني الصوت من مسافة أقرب هذه المرة. فكرت أن أستدير، لكنني لسبب ما نظرت باتجاه زوجتي كأنني أستعين بها على مجهول. لم ترني. كانت تتطلع إلى الجهة الأخرى حيث يعاود طفلان تسلق كتفي أبيهما كلما رماهما إلى الماء، وتراقب الأم المشهد من بعد خطوات على الشاطئ.
“اعذرني، أنا أتحدث إليك”.
وكانت تقف خلفي على بضع خطوات. سيدة مسنة، ربما في أواخر ستينياتها، تهدل جلدها المحمر بلهيب الشمس بين
قطعتي لباسها البحري الأسود. كانت تحمل شيئا ما في يد، وفي الأخرى حقيبة محكوكة الجلد في مواضع عدة، استقرت على جنبها فوق حزمة ملابس داكنة صرّتها تحت إبطها، لكن أطرافها انسدلت حد ركبتها.
“هاي، ما الأمر؟” سألتها بلطف.
مدت لي اليد المضمومة على شيء ما.
“أريدك أن تلتقط لي صورة”.
وانبسطت كفها عن محمول سامسونغ رصاصي قديم. كان لا يزال مطويا. فتحته وتقدمت به نحوي خطوة أخرى.
ولكي أتأكد أنني فهمت قصدها، سألتها.
“أنا آسف. ماذا تريدين بالضبط؟!”
“التقط لي صورة. تعال لأريك؟”
كدست أشياءها على حصيرتنا، ومضت لتقف خلف مظلتنا بوضعية عارضات أزياء فيكتوريا سيكرت. وضعت إحدى يديها على خاصرتها، وتركت الأخرى ممدودة في الهواء إلى جانبها بخمس وأربعين درجة. تقريبا. وسرحت نظرتها باتجاه بنايات تنتصب معتمة بمواجهة الشاطئ، وكأنها تتأمل الأفق البعيد.
قلبت تليفونها في يدي محاولا، دون جدوى، تشغيل الكاميرا. نظرت إليها ولوحت بالتليفون.
“كيف يعمل هذا بحق الجحيم؟”
“اضغط على الزر بعلامة الكاميرا”
“ولكن كيف؟ أنت لا تظهرين على شاشة العرض!”
“لا يهم، اضغط على علامة الكاميرا، وحسب”.
وهمت بالتقدم نحوي، إلا أنني كنت قد رفعت التليفون بمواجهتها فلبثت في مكانها تنظر إلي بنفاد صبر كي أنتهي من التقاط الصورة.
توقعت للحظة أن تعود إلى وضعية عارضات الأزياء، لكنها تجمدت في قالب من توشك على الحركة، يداها مثنيتان، إحداهما قرب صدرها والأخرى أسفل قليلا، وقد ثنت ركبة ساقها اليمنى، فانغرست أطراف أصابع قدمها في الحصى والرمل.
بدت منزعجة.
“تشق تشق”
وظهرت الصورة على شاشة المحمول قاتمة تماما. كانت المرأة تقف بمواجهة الشمس الغاربة، وخلفها مظلتنا الملونة بتدرجات من الأزرق والأخضر الفاتح؛ بدت هي الأخرى معتمة إلى حد كبير.
“لا يوجد بحر، وأنت معتمة“.
حاولت أن أشرح لها أن الصورة ليست صالحة.
“لا يهم، لا يهم”.
وسارت نحوي بخطى متعثرة، عجلى، كأنها تذكرت فجأة أن عليها أن تكون في مكان آخر. خطفت التليفون من يدي، ومضت نحو أشيائها المكدسة على حصيرتنا بخطى أسرع.
“إنها مجنونة ولا شك”، قلت لنفسي.
وتبعتها.
عدلت كرسيي ليكون بمواجتها، وجلست أراقبها. التقطت حقيبتها الجلدية أولا، ثم سترة بنية اللون، تفحصتها وكأنها كانت سترتديها، لكنها غيرت رأيها، تركت الحقيبة تسقط على الحصيرة، حملت قطعة أخرى من كومة خرقها، نشرتها أمامها، ثم نفضتها في الهواء، فهب نحوي رذاذ لاسع. وواصلت هي العبث بأشيائها وكأنها لن تنتهي أبدا.
“هل تحتاجين إلى مساعدة أو شيء ما؟”
سألتها باستنكار وكانت نبرة صوتي تقول: “ما قصتك؟ لماذا لا تتركيننا وشأننا؟”.
“كلا، كلا، كل شيء على ما يرام.”
ردت وهي مستغرقة في ترتيب أشياءها، توظبها تارة في حزمة واحدة، وتفردها في أخرى، ثم تعيد توظيبها.
نهضت من الكرسي دون أن أحرك قدمي من موضعهما. نظرت حولي في المكان كأنني أبحث عمن يستطيع مساعدتي في التخلص من هذه السيدة. فلا يبدو أن قصتها ستنتهي على خير.
“أهي بمفردها أم لديها أقارب أو شركاء ينتظرون في ركن ما لافتعال مشكلة؟”، تقصيت الشاطئ والرصيف، وتفحصت من بعيد ظلمة مرآب السيارات.
كانت زوجتي لا تزال تتطلع إلى الجهة الأخرى. الأطفال وأبواهما
يبتعدون عن الشاطئ باتجاه البنايات القريبة.
“حبي.”
ناديتها باللهجة العراقية.
“شوفي شنو سالفة هاي المره”.
استدارت ونظرت إلي أولا، وكأنها لم تسمع ما قلت بوضوح، وحين رأت المرأة جاثية على حصيرتنا، رفعت نصفها العلوي وبقيت جالسة في مكانها تتقصى باستغراب هذا المشهد الغريب. ارتبكت المرأة إذ رأت أننا نرمقها بنظرات متشككة. وكان واضحا أننا أردناها أن تعرف ذلك. وبانت حركة يديها أكثر عصبية، هزت رأسها كأنها تؤنب أحدا ما أو ربما نفسها، ثم فجأة نهضت حاملة معها كل أشيائها مرة واحدة من فوق الحصيرة، وقبل أن تستدير سقطت من بين أشيائها حقيبة زوجتي، اليدوية.
حدقت في الحقيبة، ثم في المرأة، ثم توجهت إلى زوجتي:
“شفتي شصار؟”
وكان سؤالي بلاغيا لا يتطلب إجابة، على أساس أن كلانا كان شاهدا على ما حدث.
“لاء، لا تظلم المره، ممكن تكون حملت الحقيبة من دون قصد”.
وحين رأتني أتابع المرأة بنظرات استغراب وهي تبعد، أضافت:
“يللا، تأخرنا، اطوي المظلة، واخذها للسيارة، بينما أجمع اجمع هاي الأشياء“.
****
كانت العتمة قد تكثفت أكثر في المكان الذي بدا مقفرا.
رجل وامرأة مسنان كانا يجلسان على كرسيين تحت مظلة كبيرة حين وصلنا إلى الشاطئ، كانا لا يزالان في مكانهما يرنوان إلى البحر.
الأمواج تأتي من بعيد وتتلاشى قريبا على الحصى والرمل.
شعر الرجل، الفضي، كان يشع في العتمة.