فلسفة الشخصية والمكان في رواية “وجوه لتمثال زائف” للروائي حسين السكاف

بقلم نبيلة علي*

 

أنا مرهون عيسى الصاحب، الشهيد العظيم في بلدي، والمواطن الثري الذي يحمل جنسية هذا البلد الأوروبي ويجلس متمتعاً أمام أجمل بحيرة رأتها عيناه وأحبها

تقوم الحبكة بوظيفة ايجاد قصة واحدة من أحداث متعددة حيث تصب الشخصيات الفرعية في مصلحة الشخصية الرئيسية الحاملة بالضرورة لمفهوم فكرة الحبكة والسرد، ففي رواية وجوه لتمثال زائف1 للكاتب حسين السكاف التي تبدأ بتعريف الشخصية الرئيسية، بطل الرواية مرهون عيسى الصاحبنتلمس أن الشخصية والمكان في هذه الرواية لا يظهران كمستويين متوازيين، أو متقاطعين، بل، متطابقين، حيث الشخصية المنبثقة من رحم المكان غالباً ما تشير بوضوح إلى ذلك التمازج والانتماء بينهمالذا سنتناول الشخصية وكأننا نتحدث عن المكان والعكس صحيح.

القصة المروية هي دائماً أكثر من مجرد احصاء وتعداد في نظام معين سواء أكان متسلسلاً أم متعاقباً للأحداث أو العوارض التي تنظمها في كل معقول2 وهذا ما نجده داخل الرواية حيث يقوم الراوي بهندسة المكان بتقنية عالية تمنح الشخصية امكانية الامتزاج والتماهي معه دون أي تعارض، بل يمكن للمكان احتوائها في أي لحظة.

في هذه اللحظة الصيفية الرائعة حيث يستسلم جسدي إلى كرسي الاسترخاء وسط حديقة منزلي، يقام احتفال مهيب في بلدي الأمحيث يزيح رئيس الجمهورية شخصياً الستار عن تمثال الشهيد البطل مرهون عيسى الصاحب

يقوم السارد أو الرواي بهندسة وصناعة الشخصية بشكل زمني متلاحق، كما المكان الذي يعمل به البطل مرهون فيصبحان متلازمة التطابق لا ينفصل أحدهما عن الآخر، لكننا بحاجة إلى أن نحلل كل مستوى على انفراد كنسق مستقل لنعيد بعد ذلك تركيب المفكك لتوضيح الفكرة القائمة على تقنيات السرد وهندسة الشخصية والمكان.

فلنبدأ بتلخيص وتطور شخصية البطل مرهون مع تطور المكان المتواجد فيه، حيث مات أبوه وهو صغير ليعمل لدى عمه (زوج والدته) في مرآب للسيارات، وكم تعرض للذل والاهانة حتى وصل لقتل عمه وهو في العاشرة من عمره، وأصبح رهينة سجن الأحداث رغم أنه ارتكب جريمته دفاعاً عن نفسه، وخوفاً من الاغتصاب، ليكون السجن، المكان الذي تتبلور فيه شخصية الصبيمرهون الذي تعرض لأحداث كثيرة أهمها تعلمه القراءة والكتابة، أريد أن أتعلم، أنا لا اقصد القراءة والكتابة فقط، بل أريد أن أتعلم الثقافةأنت قلت لنا في أول يوم حضرنا عندك أن الانسان المثقف يكون محترماً دائماً“.

يشكل مرآب السيارات المكان الأول من حياة مرهون، كونه يشبهه تماماً، مكان للذل والعذاب والابتعاد عن حضن الأم والاهانة بشكل متواصل، حتى أصبح الصبيمجرماً، لكن تركيبته الشخصية تظهره شخصية قوية لا تستسلم حتى وهو في المرحلة الثانية من تطور شخصيته حيث السجن، هناك يتعلم كيف يدافع عن نفسه ليصبح بعد تعلمه القراءة والكتابة التي أصبحت سلاحاً في يده الفتية ليصل بها بذكاء ملفت إلى مآربه حيث يصبح قاتلاً مأجوراً مرتهناًبيد ضابط أمن السجن أنا تحت أمرك سيدي النقيب فقط دلّني على الطريقةلا أبداً أنا متأكد من أنني سأتم العملية بنجاح

تكتمل الشخصية المجرمة الثانية في السجن لتصبح أكثر دقة وحرفية منذ تلك الساعة أصبحت متيقناً بأن مخططات تجري في الخفاء لبيع السجناءحيث يتم تكليفي بأكثر من عملية، ازدادت عمليات التخدير والقتل

وهنا نجد براعة الراوي في هندسة الشخصية وتركيبتها النفسية، ليتلمس القارئ، بأنه أمام شخصية مجرمة مثقفةكان للتعليم دوره الكبير في صقلها لتكتسب فيما بعد دوراً أعلى يأهلها لاعتلائه مستعينة بثقافتها المكتسبة من خلال القراءة النهمة والمستمرة دون انقطاع… “إحدى الروايات التي قرأتها قبل أن يبلغني النقيب ضياء قرار تصفية سعدون وحازم أهدتني إلى طريقة قتلهما

في روايته، لم يصف المؤلف شخصية مرهون وملامحه بشكل مباشر، لكنه منح الفرصة لشخوص الرواية أن يمنحوا القارئ وصفاً دقيقاً لشخصية مرهونالشاب، بطل الرواية، لنجده طويل القامة قوي البنية الجسمانية، ولهذه الأوصاف دلالتها، لتؤكد دور ومهارة الشخصية في الأحداث اللاحقة، قلت إن عمري ستة عشر عاماً.. ابتسم وقال إن بنيتي الجسمانية تمنحني خمس سنوات زيادة عن عمريوهذا ما سهل له الحصول على هوية مزيفة واسم جديد بعمر يكبر عمره الحقيقي بخمس سنوات، لتكون تلك الهوية المحرك الرئيس لفسحة الحرية التي تمتع بها، مما ساعد على تطور أحداث الرواية لا تنقصها معالم جديدة وأمكنة جديدة أيضاً، والغريب أنه كلما قرأ كتاباً، يتوصل من خلال القراءة إلى طريقة قتل شخصية أخرى يرصد معالمها من خلاله

في كل مرة كنت أسأل نفسي إذا كنت تريد رؤية حاتم فقط لماذا تتفحص داره وتبحث عن سبل النزول أو الدخول إليها

هو ليس قاتل محترف، ولا يتلذذ بالقتل أو لديه مشاكل نفسية أو أمراض عصبية، لكنه مرهون للآخرين، أداة في يدهم للقتل والتصفيات السياسية المختلفة في بلد مريض خاض حروب دمرته ودمرت شخوصهالوطن الذي نخرته الحروب، بات المكان المدمر والمحطم الذي تغلغل بصورته تلك إلى أرواح أبائه ليكونوا صورة له… “المدينة التي لا تحرسها الكلاب يحكمها ابن آوى، ذلك ما قاله أجدادنا العظام، ونقشوه على طينهم المفخور ولكن كيف يكون حال المدينة حين تسرقها الكلاب؟

رغم التصاق الشخصية المجرمة بالمكان المحطم التصاقاً تطابقياً، يحاول الراوي تخفيف تلك المستويات بفكرة القراءة والثقافة والتاريخ كونه يشكل، حسب بارتالشخصية الاشكالية بين أهميتها وفق المبدأ الحواري وتجسيدها كشخصية ورقية تعمل على حمل الخطاب ووضعها في الكلاسيكيات داخل تيار الوعي.

حيث يحاول الراوي أن يخفف من حدة اجرام تلك الشخصية المثقفة القارئة بأن تقابل شخصيات أخرى خلافية تتقبل الموت والحياة بكل صدق لكن السارد يجعلها روافد للشخصية الرئيسية تعزز من قدرتها على المضي أكثر ابتسمت وقلت بأنني مازلت تلميذه النجيب لذا أجد صعوبة بالغة في تحقيق طلبه، وقال بأنني مازلت محتفظاً بأهم ما يميزنيالذكاء وسرعة البديهة“… هذه الكلمات التي سمعها وهو صبي صغير من أستاذه الذي علمه القراءة والكتابة داخل سجن الأحداث، سمعها أيضاً، بعد عدة سنوات من الدكتور حمزةالذي يشتغل في عيادته والذي يعتمد عليه في قتل الأشخاص لبيع أعضاءهم… “لقد نجحت في كل الاختبارات بالاضافة إلى امتلاكك مهارات رائعة وذكاء وسرعة بديهة لافتة

نصل إلى عمق التطابق المكاني في الشخصية ومعها، حيث المكان الحيز الذي تدور داخله الأحداث كخشبة مسرح يتحرك عالم الرواية فوقها وضمن فضاءها، واستمرار لعبة الضوء والظل بمستوياتها اللانهائية حتى تصبح هذه الشحصية القاتلة المجرمة مديراً عاماً لـ المؤسسة العامة للثقافة والنشر“.

إذاً، المكان هو مؤسسة ثقافيةوبطل الرواية، هو المثقف القارئ النهم الذي يقرأ كل ما يقع بين يديه من كتب فلسفية وروايات وغيرها مؤسسة أنشأتها أنا وهو لا تمت بصلة إلى وزارة الثقافة إلا بالاسم فقط…. كانت أكثر استقلالاً من أي وزارة أو كيان حكومي، بل أكثر من ذلك كان لها الكلمة العليا على كل الوزارت والمؤسسات الحكومية دون أن يعرفها أحد“.

هذا التدرج المتقن والدقيق في تطور الشخصية مع ظلها المكاني الحامل لفكرها والناقل لما ستفعله، نجده وقد وصل إلى ذروة الدقة، حين يصبح المكان هو شخصية أخرى يفرّغ فيها البطل ترتيب وتطوير شخصيته فيها، ويتمثله المكان حتى تختلط على المتلقي أيهما الشخصية الأساسية أو الرئيسية… “سيادة الوزير هل تسمح لي بالتكلم صراحة؟هزَّ رأسه موافقاً فأضفت: “أعتقد أن مؤهلاتي وسيرتي الذاتية التي تعرفها جيداً ترشدني إلى أن المؤسسة التي تريد مني أن أكون مديراً لها هي مؤسسة تحترف القتل …”.

نعم فلا يوجد مكان أوسع وأفضل من مجال الثقافة كونه شاملاً ومتسعاً“.

كل ذلك التكثيف حصل بعد مرحلة الاحتلال من دمار وتشرد، أشار إليه الراوي بكل حرقة ومرارة وبشكل مفصّل، وكأنه يريد انتزاع الحزن والوجع من أعماقه على شكل كتابة. “الدم المسفوك على أسفلت الشوارع والأرضفة وعلى تلال المزابل صار ينافس انتاج البترول في كميته. الاطفال السائبة في الشوارع تستجدي المارة صاروا ينافسون الكلاب السائبة في حضورهم اليومي وسط الشوارع وبراميل القمامة“… كل هذا الوصف قبل وخلال وبعد خروج الاحتلال، يتوج دهشة مرهون وحيرته حين صار يصتدم بوجوه عرفها من قبل، وقد احتلت مراكز مهمة في الدولة حديثة التكوين… “يبدو أنني سأقابل كل من عرفتهم أثناء سنوات السجنترى هل تشكلت الحكومة داخل السجن قبل سقوط الدكتاتور؟” .

إنه التماهي بين المكان والشخصية، شخصية القاتل والمكان وزارة الثقافة، الحكومة والمكان السجن. كوثر بائعة الهوى والمكان مكتب السكرتارية، لذا أعتقد أنه من المهم أن نؤسس أنا وأنتِ مكتباً للترجمة، ترجمة الوثائق والأخبار والمقالات“… حتى غرفته التي يذهب إليها ليرتاح مستعيناً بالقراءة، تشبهه، تشبه روحه المدمرة الهائمة والمنغلقة على ألف سر وسر، وكلما ضاق المكان وصار الوقت أكثر مرارة، نجد مرهون وقد وظف مخيلته لينتصر على تلك المرارة… “كنت أقضي الوقت مصطحباً روحي داخل غرفتي على طريق سورن كيركغارد ووالده، عند ذاك لا أجد في شخصيتي سوى صورة لأجير، أو سجين، أو شخص مهان يحاول اثبات وجوده أو الدفاع عن وجوده عن طريق الدم المسفوك“… ويبقى المكان تلك الشخصية المؤثرة في بناء الرواية رغم تعدد الشخصيات، فبين شخصية وأخرى، شخصية النبيل الذي يواجه الموت، وذلك المهمش الذي يقبل الحياة، يظل المكان بالنسبة لهما، شخصية أخرى بمفهوم متسع يشمل ما هو غائب أو حاضر يحتفى به ويشكل لهما مستقبل ضبابي واهن إنه شاعر استطاع تحويل ظلمة السجن إلى فردوس عشقرائع

شخص يمتلك تلك المواصفات ويحمل بين طيات عقله مشروعاً علمانياً من شأنه أن يهدم كل ما بنيناه هو الخطر العظيم

يزداد الخطر المستقبلي بالنسبة لرجال الدولة الجديد أصحاب السوابق، ويزداد الاحتجاج وتتعالى الشعارات في كل مرافق الحياة لكنهم في المقابل وعن طريق مؤسسة الثقافةبرئاسة مرهون بطل الرواية، يرتبون الخطط والمتفجرات والسيارات المفخخة لتحل مكان ذلك الفكر وذاك المستقبل الذي يهددهم.

تتكاثف الأحداث وتتطور تلك الشخصية المجرمة المحطمة لتصل إلى أعلى مراحل الإجرام في المشهد الفنتازي على ما نعتقد، لكنه يمثل قمة الواقع لما كان وما حصل لتلك الشخصية، بعد أن يقتل أمه وأخته بعد أن عثر عليهما وعرف أنهما يعملان في الدعارة، وهنا تكثيف تلك اللحظة.

اللحظة لم أعرف سرها اشتقت لمنظر الدم سحبت يد أمي ووخزت وريدها بالمشرط خرج دم قليل كان يشبه دماء كل الضحايا إلا أنه قليل لعقته كان مُرّاًتوجهت صوب أمٍ نائمة وجلست إلى جانبها ثم لففت أحد أطراف السلك على رسغها الأيسر وربطت الأخر في الأيمن، أوصلت رأس السلك إلى مأخذ الكهرباء وضغطت على الزر انتفض جسد المرأة وصار يرتعش لثوانٍ حتى همد… ”

ثم يرمي بجثة أمه وأخته في النهر، ليشكل ذلك النهر المكان المقدس الذي سيرافقه في أزماته، ليكون له دلالات أكثر من مجرد نهر أو مكان، حين نجده وقد أصبح الماضي الذي يريد أن يغتسل به لينسى ولترتاح روحه قليلاً… “صار النهر أمّاً طاهرة لي، بعد أن اغتسلتْ بمائه أمي العاهرة“. وبهذا يمكن للقارئ أن يتلمس كيف أصبح المكان المتمثل بالنهر، شخصية، شخصية الأم، حيث يتجلى التماهي بأقوى صورة بين الشخصية والمكان عند الراوي، وكأن النهر حضن أمه كلما تعب يرتاح إليه، البحيرة التي صرت أغتسل بماءها كل صباحجميل أن تغتسل بقبر أمك كل صباح ، عبارة صرت أرددها وأن أدخل البحيرة بجسدٍ عارٍ“.

إن الفعل السردي بإكراهاته يقدم الوجه المجسد للحياة خارج الحدود القيمية المجردة، ولكنه قابل للتصريف من خلال الاكراهات ذاتها في حدود مجردة هي الضابط للعوالم الدلالية والضامن لانسجامها3

أخيراً نقول أن رواية وجوه لتمثال زائفبحدود 514 صفحة، بهذه الكثافة وتلك الدقة وحجم وقساوة الأحداث استطاع من خلالها الكاتب حسين السكافأن يرسم ويصنع ويبني تقنيات سردية عالية ودقيقة لكل تفصيل، بحيث يجعل المتلقي في حالة دهشة وخوف وقللق وتصديق لكل مشهد، وكأننا أمام شاشة عرض وكاميرا تنقل لنا دقائق المشاهد ببراعة لكاتب مثقف ومستقرأ لما حدث ويحدث.

شعرت بغمامة حزن سوداء تغذو روحيمن أنا؟ ليأتيني الجواب كما في كل مرة، مشهد سينمائي متقن بحرفية عاليةأنا حصان موتٍ جامح يجر عربة دون حوذيّ، عربة متللة بجثث عائدة لاحلام جميلة وأمنيات عشاق، أنا الموت رصاصة الرحمةن رصاصة الغدر الرحيمة التي تطفئ الأحلام المزيفة.. تطفأ أرواحاً حالمة بمستقبل مشرق لبلدٍ شمسه سوداء“.

———————————–

الهوامش

  • نبيلة علي – كاتبة وناقدة سورية مقيمة في السويد

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *