القصة الملحميّة لأذن “فان غوخ” كريستوفر كلين

ترجمة الشاعر الليبيّ: علي الربيعي

في ذكرى رحيله
القصة الملحميّة لأذن “فان غوخ” 
كريستوفر كلين
عن : Art History

في ديسمبر من العام 1888 فقدَ الفنان الهولندي القلق فينسنت فان غوخ، شحمة أذنه اليسرى، وهنا، يعتقد بعض من مؤرخي الفن بأن الجرح الذي تسبب في ذلك لم يكن في الواقع من صنيعته هو.
في الثالث والعشرين من أكتوبر  من العام 1888 طرق بول غوغان باب بيت أصفر صغير في مدينة آرل جنوبي فرنسا. أحدَث الباب صريرا وظهر فان غوخ مُرحّبا.
كان فان غوخ الذي عانى من نوبات من الصرع والاكتئاب قد استأجر البيت في وقت سابق من بداية العام. وقد عانى الفنان من تقلبات حادة ما بين مراحل الجنون والإبداع أثناء قيامه برسم مشاهد من الريف الفرنسي وسلسلته من لوحات زهور دوار الشمس الشهيرة.
كان فان غوخ الذي يعاني من اليأس والوحدة يأمل في أن يتمكن في بيته ومرسمه الجديدين من استضافة مجموعة الفنانين، وهو الأمر الذي سيوفر له حسب ظنه الرفقة ويقلل من اعتماده المالي على شقيقه الأصغر “ثيو” والذي كان بدوره تاجرا فنيا وداعما قويا للفنان المكافح.
وها هو غوغان أخيرا يقبل مناشدات فان غوخ المتكررة للانضمام إليه والسكن سويا في بروفانس. لقد رسم كلاهما العديد من اللوحات واستكشفا سويا المعارض الفنية والمواخير في المنطقة، إنما ومنذ البداية كانت تنشأ بين كلا الفنانين علاقة عاصفة.
لقد كان رائدا ما بعد الانطباعية يتشاجران على كل شيء مثلما يفعل زميلين يتشاطران حجرة في سكن الطلبة، بداية من الأعمال المنزلية ونفقات المعيشة، وحتى فضائل ومزايا كل من اوجين ديلاكروا ورامبرانت.
استاء غوغان من الفوضى العارمة التي كان يُحدثها فان غوخ في المرسم فألقى بفراش مضيفه خارجا، وأرسل في طلب فراش الكتان الخاص به من باريس. وسرعان ما تحول البيت الأصفر إلى ما يشبه دفيئة من الزجاج لا ينمو فيها سوى التوتر، بدلا من تلك اليوتوبيا الفنية التي لطالما حلم بها فان غوخ.
وقد كتب غوغان الذي أصبح قلقا بشكل متزايد بسبب صمت فان غوخ الكئيب والاضطرابات غير المنتظمة التي كانت تباغته “لقد بدا لي الوقت وكأنه دهرا” . وقد كتب إلى صديق آخر ” لقد أصبح فينسنت غريبا جدا”. وكتب أيضا ” لقد كنت أعيش معه واعصابي على حافة الانهيار”.
في منتصف ديسمبر عبّر غوغان عن سخطه من السلوك الغريب لمضيفه في رسالة وجهها إلى ثيو فان غوخ. كتب “لا نستطيع أنا وفينسنت بعد الآن العيش معا على الإطلاق من دون أن يكون هنالك احتكاك”. وأضاف، “وذلك بسبب عدم وجود توافق بين مزاج كل منا ولأن كلانا محتاج للهدوء لإنجاز عمله”.
أخيرا وقبل يومين من احتفالات أعياد الميلاد، والذي لم يكن وقتا سعيدا لفان غوخ، اعلَمَ غوغان مضيفه بأنه يخطط للعودة إلى باريس، ووفقا لغوغان الذي ذكر بأنه غادر المنزل تلك الليلة في نزهة بعد تناولهما طعام العشاء، ظهر فان غوخ خلفه فجأة وهدده بشفرة الحلاقة، لكن غوغان تدارك الأمر وقام بتهدئة فان غوخ ومن أجل سلامته، قرر أن يقضي تلك الليلة في فندق مجاور.
بعد مضي تسعة اسابيع من طرق غوغان لمنزله الأصفر، ها هو الفنان الهولندي الرائد يعود إلى منزله الخالي الآن، وحيدا مجددا. كان فان غوخ يأمل أن تكون إقامة غوغان أبدية، لكن أحلامه بإقامة منتدى للفنانين قد تلاشت الآن، وفي نوبة من الجنون التقط الفنان اليائس شفرة الحلاقة، وشد شحمه أذنه اليسرى وقام بقطعها. لقد قطع الشريان الأذني لأذنه اليسرى, فنزف بشدة، لكنه تمكن من وقف النزيف، بواسطة منشفة مبللة وضمد جرحه في النهاية.
لقد قام بلف شحمة أذنه بعناية بإحدى الصحف، ولتغطية الجرح اعتمر قبعة وخرج قاصدا بيت دعارة قريب حيث طلب رؤية عاهرة غوغان المفضلة، ووفقا لرواية إحدى الصحف، فقد قدّم فان غوخ أذنه للمرأة التي تدعى راشيل وقال: “اعتنِ جيدا بهذا الشيء”. وما إن فتحت راشيل الصحيفة حتى أغمي عليها على الفور، وخرج هو يتهادى إلى المنزل.
قدم بيت الدعارة شكوى في حقه، وفي صباح اليوم التالي اكتشفت الشرطة وجوده في السرير فاقدا للوعي، ملفوفا في ملاءته الملطخة بالدماء، وعلى إثر ذلك تم إدخاله لمستشفى محلي، حيث طلب مرارا رؤية صديقه غوغان، والذي لم يأتِ أبدا.
ظل فان غوخ في المستشفى في آرل لمدة اسبوعين قبل عودته إلى البيت الأصفر. فقد التئم الجرح الآن. فاستأنف الفنان الهولندي الرسم، حتى أنه قام بتوثيق ما أعقب تلك المرحلة العنيفة في بورتريهات يصور فيها نفسه وهو يدخن الغليون، والضمادات معصوبة حول رأسه.
تواصلت موجات الجنون، وهكذا قضى فان غوخ معظم الوقت من العام التالي في مصحة عقلية في سانت ريمي قبل أن يطلق النار على نفسه في السابع والعشرين من يوليو 1890 . حيث توفي بعد يومين من الحادثة عن عمر يناهز 37 عاما.
لقد ظلت ليلة الثالث والعشرون من ديسمبر 1888 أكثر  الليالي شهرة ومأساوية في حياة فينسنت فان غوخ برمتها, ويستند الكثير من سرد الأحداث على رواية بول غوغان والذي كان المشتبه به الأول بعدما عثرت الشرطة على آثار المشاهد الدموية في البيت الأصفر.
ورغم ذلك فقد افترض مؤرخا الفن الألمانيين هانز كوفمان وريتا ويلدغانس في كتابهما الصادر في العام 2009، أن الرواية التقليدية كانت في حقيقة الأمر مجرد قصة تم اختلاقها من قِبل اثنين من الفنانين للتغطية على غوغان من أجل حمايته. وافترض الكاتبان أيضا أن غوغان هو من قام بقطع أذن فان غوخ بسيف مبارزة يخصه، بعدما جرى بينهما جدال عنيف.
ووفقا لكوفمان وويلدغانس، فإن فان غوخ قد رغب بشدة في المحافظة على صداقته مع غوغان، ولذلك قام بحمايته من المقاضاة. وفي الوقت الذي تكون فيه الرواية الحقيقية لما حدث في ليلة 23 ديسمبر 1888 عرضة للنقاش والتحليل، إلا أنه من المؤكد بعد تلك الليلة أن كل من فان غوخ وغوغان لم يريا بعضهما أبدا .

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *