هل يقرأ الكتاب العرب اليوم ماركيز الكولومبي؟

شاكر الأنباري

فندق محمود المشرف على المتحف الوطني العراقي، لعمارته البسيطة المهملة وسط بغداد، ظل في ذاكرتي عقدين من السنين، لأنني كلما ورد اسم الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز أتذكره. عاش معي في دمشق وكوبنهاغن وساو باولو وبيروت وهامبورغ وكل مدينة تواجدت فيها. واسم ماركيز ظل يرد إلى أذني ويتكرر يوميا تقريبا، على امتداد ثلاثين سنة، ليس بسبب فوزه بجائزة نوبل للرواية، بل للروايات الساحرة والقصص التي ظل ينشرها طوال أكثر من أربعين سنة من حياته الكتابية. الحب في زمن الكوليرا، ليس للجنرال من يكاتبه، قصة موت معلن، خريف البطريرك، مائة عام من العزلة، عاصفة الأوراق، وعشرات القصص، وعلى رأسها إيرينديرا الساحرة وجدتها، التي نشرت في مجلة الأقلام العراقية نهاية السبعينيات، أو بداية الثمانينيات . وارتبط فندق محمود الواقع في علاوي الحلة ببغداد دائما باسم ماركيز، كل هذه الأعوام، لأنني ولأول مرة أقرأ له رواية مائة عام من العزلة في هذا الفندق. أحسست أنني أقرأ رواية من نمط خاص، ومختلف عن كل الروايات التي قرأتها في حياتي. قرأتها وعمري لم يصل الرابعة والعشرين سنة، ووجدته لا يشبه ديستويفسكي المهووس بتناقضات الروح البشرية، ولا تولستوي الناسك وتشيخوف الساحر، ولا جون شتاينبك وهمنغواي، ولا نجيب محفوظ أو يوسف أدريس أو غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي أو حنا مينة الذي قرأت روايته “الثلج يدخل من النافذة” بشغف في بغداد الساخنة، الملوثة بدماء الحروب.
الشخصيات التي تتناسل، تشابه الأسماء، الأحداث العجيبة غير المألوفة لبيئته، الأسلوب الالتفافي على الزمن الذي ميز ماركيز، التفاصيل الحياتية الصغيرة للشخصيات، النساء خاصة، الرؤساء المخلوعون، المهمل من الحوارات والتفاصيل الصغيرة، وكيفية وصول الحضارة الجديدة إلى قرية ماكوندو، أو أي بلدة مهملة. وهكذا، الغيوم التي تمطر أزهارا، الفتاة التي تطير، الأزهار الناثة لرائحة مدارية في ظهيرات ساكنة وحارة، وكيف وقف الجنرال بوينديا أمام فصيل الإعدام، وهو المشهد الذي يفتتح فيه ماركيز روايته الساحرة مائة عام من العزلة. قرأت كل هذه الأحداث وأنا في فندق محمود، متحللا من ملابسي العسكرية، خالعا بيريتي وبسطالي، مستمتعا بإستكان من الشاي، وسيجارة من نوع بغداد.
لا أظن أن أحدا من جيلي قرأ لماركيز دون أن يتأثر به. فهو السهل الممتنع، الذي يشعر القارئ بأنه يستطيع هو الآخر تحويل حياته البسيطة إلى قصة أو رواية. لكن الأمر لم يكن كذلك، فبساطة ماركيز هي بساطة المعلم، والخبير، حين يصل إلى قمة الحرفنة.
واحد من قصاصي العراق، يبدو أنه أعجب بحكاية السماء التي تمطر أزهارا، واعتقد أن المشهد حصل في رواية مائة عام من العزلة، وينبغي القول هنا أن أمطارا من زهور ظاهرة تحدث كثيرا في أميركا اللاتينية، بسبب كثافة الغطاء النباتي والأشجار المزهرة، والغابات المدارية البكر، وحين تهب العواصف أو الأعاصير يكون من الطبيعي أن تحمل تلك الأزهار لمسافات بعيدة مع الريح لتسقط على مدن وقرى نائية، وشاهدت ذلك عيانا في أصقاع البرازيل في سنة 1992 وكنت أزورها مع زوجتي البرازيلية السابقة. جعل ذلك القاص العراقي سماء السماوة، أو الناصرية، لم أعد أتذكر بوضوح، تسقط كسرا من الزجاج لتغطي القرية التي تدور فيها الأحداث، وهي قرية عراقية على أية حال، لأن الحدث يدور في العراق. هذا هو التأثر الساذج، المكشوف والفج، بماركيز وماركيز يحاول في معظم كتاباته الغرائبية أن يجسد الأساطير التي خلقها الناس، ودارت في الأفق الحضاري لأميركا اللاتينية ذات الطبقات المتراكمة والثقافات المتداخلة، من زنوج وهنود وأوربيين وصينيين وعرب. هذا ما يشترك فيه معظم كتاب أميركا اللاتينية تقريبا. لم يخلق هو الأساطير إنما رواها فقط، كما في حكاية الشابة التي طارت إلى السماء واختفت، إذ أن عائلتها هي التي اختلقت هذه الأسطورة لكي تغطي على هربها مع الشخص الذي أحبته. الأسطورة علاج للفضيحة الاجتماعية، والبنت أرينديرا التي يتعاقب عليها فصيل من الجنود في صحراء الملح والبارود، أيام كانت الدعارة شائعة في واقع أميركا اللاتينية.
ولعل ماكوندو، المدينة الصغيرة في كولومبيا أو تشيلي أو الأمازون، تجسيد لقدرة ماركيز على صياغة الأسطورة وزراعتها في تربة الواقع. استلهم ماركيز أسطورة ماكوندو وصنعها منذ أول رواية كتبها، وهي رواية عاصفة الأوراق، وتتحدث عن المدينة الصغيرة في بدايات القرن العشرين بعد أن رحلت عنها العاصفة وتركتها مدينة مهملة، بائسة، مدمرة نفسيا وروحيا. أبناؤها يستبطنهم الحقد، والكراهية، والدسائس الصغيرة، والمؤامرات، والتشوهات الخلقية. رحلت العاصفة وتركت المدينة متهالكة الشوارع، خربة، متهدمة البيوت، مشبعة بحكايات زمن بعيد، زمن عاصفة الأوراق التي جاءت ذات يوم بشركات الموز، والسكك الحديد، والمضاربات، والعاهرات، والسمسرة، وشذاذ الآفاق من كل بلد وقارة.
رصد ماركيز مدينة ماكوندو بعد رحيل العاصفة، حيث لم تعد سوى هياكل فارغة.
رواية عاصفة الأوراق تلك قرأتها في درجة حرارة خمسين مئوية، وذلك في منتصف شهر تموز بغدادي، وكنت أقطن في منطقة الدورة. قرأتها وقد تلاشت أحلامي من الوصول إلى عراق كنت أحلم فيه قبل عودتي. قبل أن تحملني عربة توينبي الخرافية لري براد بري من دمشق إلى بغداد، عبر الأردن لا أدري وقتها لم أحسست أن ماركيز كان في تلك الرواية يتحدث عنا نحن العراقيين. وأوحى لي العنوان بعاصفة الصحراء، التي كانت المقدمة الأولى لغزو ماكوندو المعاصرة، ماكوندو العراقية.
ماكوندو غارسيا ماركيز عاشت العاصفة في عشرينيات القرن المنصرم، يفصلنا عنها ما يقرب من القرن. أما نحن فعشنا العاصفة في مفتتح القرن الحادي والعشرين، وانبلاج الألفية الثالثة، وينبغي أن نكون محظوظين كوننا وجدنا أرواحنا في لب التطور التكنولوجي، وغزو الفضاء ومجراته، وفي بركات شرائع حقوق الإنسان، والوفرة، والحريات التي كفلتها دساتير العالم الحديث. وأنا وجيلي ممن أكلتهم الحروب محظوظون بشكل مضاعف، لأننا تجاوزنا مقابر الحروب ومآسيها وهجرات شعوبها وكوارث أديانها ومذاهبها، وبقينا نحتفظ برؤوسنا على أكتافنا الكليلة. بقينا شهودا على جحيم دانتي وهو يتسع، ويتسع، ليشمل أرض العرب من الخليج وحتى المحيط.
قدم ماركيز خلاصة تلك الحقبة روحيا عبر شخصية الدكتور الذي وفد مع العاصفة، ولا أحد يعرف من أين جاء، وكل ما كان يملكه كي يصبح مقيما شرعيا في ماكوندو هو توصية من الجنرال بوينديا، جنرال حروب التحرير التي ضربت أصقاع أميركا اللاتينية في تلك الحقبة. كان الدكتور خلاصة لعاصفة الأوراق تلك، وجثة متحركة فقدت كرامتها البشرية. كم منا اليوم من يحمل خلاصة عاصفة الصحراء التي ضربت ماكوندو المعاصرة؟ ماكوندو العراقية، التي صار ربع قاطنيها يعانون من اختلالات نفسية وروحية، فقد تخرجت أجيال من مختبر الحروب التي دامت ثلاثين سنة، تفككت أسر، وتشوهت أرواح، وقست نفوس بعد أن عاشت الثلاثين سنة تلك في بحر من العنف، والموت، والقمع، والاحتلال، والكذب، وسايكولوجيا الهروب من واقع مر وبائس.
تأثير ماركيز كما قلت سابقا شمل الجميع، ليس ذلك القاص العراقي فقط، بل أدباء عربا من بلدان مختلفة. سوريا على سبل المثال. في العام 1997 أو ربما قبلها أو بعدها بقليل، لست أذكر تماما، كنت أعمل في دار المدى للثقافة والفنون بمقرها الكائن في منطقة ركن الدين الدمشقي. كنت قرأت للتو خريف البطريرك الذي ترجمه محمدعلي اليوسفي. وذات نهار صيفي دخل إلى الغرفة الصغيرة المواجهة للمدخل، كاتب شاب معروف في الوسط الثقافي والفني، تعرفت عليه في مقهى الروضة، هو خالد خليفة، حاملا مخطوطة رواية سماها “دفاتر القرباط”. كان يود نشرها في المدى. كنت أقرأ معظم المخطوطات التي ترد الدار للنشر، قلت لخالد خليفة انتظرني بضعة أيام حتى أقرأ المخطوط، وقد قرأت لخالد قبل ذلك رواية اسمها حارس الخديعة لم استطع التفاعل معها، وهي تحمل ثغرات التجارب الأولى للكتابة، لكن دفاتر القرباط كانت رواية جميلة ومؤثرة، تفاعلت معها وجذبتني إلى أجوائها الأسطورية والساحرة. وتعود بأمكنتها إلى حلب التاريخية وأسرها ونسائها ومعاناة بشرها، لكنني لاحظت أن الرواية تقع تحت هيمنة ماركيز وطريقته في القص، وذلك في مائة عام من العزلة، وخريف البطريرك، وقصة موت معلن والحب في زمن الكوليرا وغيرها من الروايات والقصص، إلا أنني لم أتجرأ على التوصية بنشرها لأن الرواية تدين بشكل واضح الواقع الحزبي والسياسي في سورية. وهو خط أحمر أعرفه جيدا، فقلت لخالد رأيي بذلك لكنني أخبرته بالحقيقة، ثم تابعت لخالد مسلسل سيرة آل الجلالي الذي أخرجه هيثم حقي، وكان يعرض على شاشة التلفزيون السوري، وتمتعت كثيرا بحلقات المسلسل، وشخصياته الحلبية، وتقلبات حياتها وفضائها الاجتماعي.
+++
غادرت سورية الى العراق مودعا كتّابها وأماكنها ومقاهيها، وسمعت بوصول رواية خالد خليفة في مديح الكراهية إلى القائمة القصيرة للبوكر في العام 2008، ولم أقرأها حتى اليوم. لكن في العام 2014، وبعد وصول روايته لا سكاكين في مطابخ المدينة إلى القائمة القصيرة للبوكر تهيأ لي نسخة ب دي أف أرسلها لي صديقي القاص والروائي العراقي سلام ابراهيم وكنت وقتها أقيم في كوبنهاغن. لم أقرأ خالد خليفة منذ حارس الخديعة ودفاتر القرباط، لذلك جئت إلى رواية لا سكاكين في مطابخ المدينة بفضول، خاصة وهي تتنافس مع رواية عراقي هو أحمد سعداوي وعنوانها “فرانكشتاين في بغداد”. كنت أريد معرفة التطور الذي سار فيه خالد في كتابة الرواية بعد حارس الخديعة ودفاتر القرباط. وجدت تأثير ماركيز ما زال لاصقا بنمط خالد في كتابة الرواية، مثل كتاب عرب آخرين طبعا، وهو أمر لم يدهشني كثيرا، كون معظم الكتاب العرب تأثروا، بهذه الطريقة أو تلك، بأسلوب ماركيز في القص. غير أن اتساع رقعة الترجمة من الروايات العالمية إلى العربية، ووصول أساليب جديدة في الكتابة، وترسخ فن الرواية في البيئة العربية، كل ذلك خفف بعض الشيء من الصدمة الماركيزية.
ماركيز بقي الأثير، خلال عقود وحتى اليوم غالبا، لدى كتاب القصة والرواية العرب. لذلك ما أن مات ماركيز حتى سرت موجة شاسعة من الرثاء، والمديح، في الصحافة العربية. أعدت ملفات، كتبت مقالات، ملأت بوستات الفيسبوك معلقة حول ماركيز الظاهرة، والأسطورة، والأيقونة القادمة من أميركا اللاتينية. رواية خريف البطريرك وكأنها تروي سيرة زعيم عربي من الذين حولوا حياتنا في العقود الأخيرة إلى مقبرة. التلاعب بالزمن الروائي أنتج لدى ماركيز حيوية، وحضورا، طاغيين، مما مكنه من الانتقال بين الشخصيات، والأزمان، والأمكنة، بسلاسة لم تعهدها الرواية العالمية، ولا يمكن هنا إغفال تأثر ماركيز بالسينما وكيفية كتابة السيناريو. الأمر الذي أتاح تحويل أي حدث، مهما ضؤل، إلى مشهد فني. وأتاح في الوقت ذاته قدرة الحفر في الوعي الجمعي لقارة برمتها، هي أميركا اللاتينية، وكأنه استطاع، مثل كولومبس، اكتشاف ذلك المحيط السفلي من اختلاط الأعراق، والأساطير، والخرافات، ضمن طبيعة خلابة وساحرة، منذ الحضارات الهندية الكبرى وحتى دخول الرجل الأبيض بعباءة الدين والمدنية. ويمكن أن يكون لألف ليلة وليلة دور في اقتناص ما هو، أسطوري، يوتوبي، حلمي، وتبنيه في النص الروائي باعتباره سردا له وشيجة مع الواقع. وتأثر ماركيز بألف ليلة وليلة جاء بعد قراءة الملحمة تلك، صغيرا، ولم ينكر، لاحقا، هيمنتها السردية على نتاجه. من كل ذلك استطاع ماركيز بناء عمارة روائية مختلفة عما ألفته الذائقة العربية التي تربت، بشكل عام، على الرواية الأوربية والأميركية ضمن الفضاء المسيحي الصناعي بحروبه، وعقلانيته، ومنطقه.
بعض من وجوه تلك العمارة السردية يمكن للقارئ التقاطه في الواقع العربي حوله، دون امتلاك الأداة لتمثله، وثمة تجارب عربية نسخت ماركيز، أو تأثرت به لكنها لم تنجح في تمثل التقنية وتعريبها مع الواقع المحلي، بل بقيت على السطح. ولا يمكن إغفال أن ماركيز يتكئ على تراث قرون من التجارب الروائية، الأوربية والأميركية، والتنظير النقدي لها، فكان دمج ذلك التراث مع التاريخ اللاتيني الهجين، وفي لحظة زمنية نادرة، أنتج ما صار يعرف بسرد الواقعية السحرية. رغم أن كتاب تلك الموجة لم يفعلوا أكثر من دفع زخم الحياة إلى مصاف الفن، فالسحرية لم تأت في الحقيقة من النمط الفني في الكتابة فقط، بل من نمط الحياة اللاتينية ذاتها، وفورانها التائق إلى الحرية، والجمال، والعدل، والكرامة البشرية، خاصة وأن ذلك العالم ظل لعهود طويلة غائبا عن الجزء الآخر من الأرض. وتجربة ماركيز لن تتكرر بالتأكيد، إذ كانت أشبه بالطفولة الفنية في الحياة البشرية.
أعتقد أن نشوء الرواية في أوربا وتطورها، لاحقا، على يد كتاب أميركا اللاتينية، له علاقة أيضا بتراث ديني مختلف عن تراث الدين الإسلامي، فالمسيحية ولعشرات القرون أفرزت دورا كبيرا لآلية بشرية اسمها الاعتراف، والاعتراف بالخطايا يجعل الكائن البشري أكثر توازنا، كما أنه ينمي الشجاعة الذاتية لدى الفرد، ويعطيه القدرة على أن يكون عاريا، متمردا، يمتلك الجرأة على كشف أعماقه مهما كانت مظلمة أو غامضة. وبتراكم هذا التقليد، وبتحويل الفرد إلى شخصية فنية ضمن عمارة السرد، يتم للروائي خلق شخصيات عميقة، لا تغيب عن الذاكرة، وماركيز يحفر دائما في تاريخ شخصياته، تخاطب الحس الإنساني أينما كان. هذا ما لم يحصل في تراثنا العربي والإسلامي حتى عهود قريبة، وظل التكتم، والتغييب، والتقية، هي السائدة لدى كائنات مجتمعاتنا الشرقية، والعربية خاصة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *