حصان نيتشه

كريس تاونسند

ترجمة : كريم جواد

في الثالث من كانون الأول 1889، على أعتاب مرحلة جنون، غادر فريدريك نيتشه مكان إقامته في تورينو، تمشى مسافة قصيرة عبر ساحة مجاورة، ثم توقف فجأة. متطلعا إلى حصان كان صاحبه يسوطه بقسوة، رمى نيتشه نفسه نحو الحصان وعانقه، ثم انفجر باكيا وانهار على الأرض. وكاد أن يعتقل لزعزعته السلم الأهلي، لكن صاحب النزل أنقذه وأعاده إلى البيت، ثم إلى سريره. وقضى نيتشه الـ 11 عاما المتبقية من حياته تحت العناية النفسية، في جنون مطبق.

هكذا تمضي حكاية انهيار نيتشه في تورينو، حسب الاعتقاد السائد على أقل تقدير. لا جدال في السرد أعلاه للحادثة التي تعتبر بشكل عام، حادثة مهمة في سياق تاريخ نيتشه الفكري، إذ تحدد لحظة حاسمة بين الفيلسوف العظيم والانهيار العقلي. إن كتّاب السير الذاتية والمؤرخين يميلون إلى التشديد على دور الحصان؛ فهو يظهر تقريبا في جميع الروايات الأكاديمية لحياة نيتشه، ويبرز ويعاود البروز في الأدب، كما هو الحال لدى راوي ميلان كونديرا في “خفة الكائن التي لا تحتمل”. وبإيحاء من الواقعة أيضا أُنتج عام 2011 فيلم “حصان تورينو”. مع ذلك، يبقى من الغريب أن ليس ثمة فعليا إلا القليل من الأدلة على وجود هذا الحصان. والأغرب، علاوة على ذلك، تبدو الحادثة وكأنها انتزعت من صفحات كاتب كان نيتشه يبجله: فيودور دوستويفسكي.

ظهر المقطع الذي نتحدث عنه، مبكرا في رواية دوستويفسكي العظيمة “الجريمة والعقاب”. راسكولنيكوف، الذي يوشك على قتل سيدتين مسنتين بفأس، ممدد على السرير في حالة جزع. وفي مشهد يمهد لنوبات الإحساس بالذنب والهذيان، التي تداهمه بعد ارتكاب الجريمة، يستولي عليه حلم مزعج. يرى راسكولنيكوف نفسه طفلا يسير مع أبيه في مدينة ريفية. وخارج حانة، ثمة جمع من السكارى يتحلقون حول حصان عجوز متهالك، مربوط بعربة حمل ضخمة، لا يقوى حتما على جرها. ولإمتاع الغوغاء، كان صاحب الحصان يسوطه بقسوة شديدة، (أحيانا على عينيه وخطمه). ولزيادة وزن العربة، يصعد الرجال على ظهرها، بينما يستمر المالك بضرب الحصان صارخا “تحرك”. وعندما يعترض شخص ما على العنف، يصيح المالك “إنه حصاني، إنه حصاني”.
راسكولنيكوف، بصوت طفل، يتوسل بالرجال أن يتوقفوا. باكيا يركض باتجاه الحصان، ينظر في عينيه مباشرة، وفيما هو يفعل ذلك يتلقى ضربة بالسوط. ومع تفاقم الوحشية، ينهار الحصان، ويبدو من الواضح أنه سيموت. يضع راسكولنيكوف ذراعيه حول خطم الحصان الدامي، يقبله حول عينيه، مطالبا من دون جدوى وضع حد للبربرية. يغترفه أبوه من بين الحشد ويأخذه رغما عنه بعيدا عن الحصان. وفجأ يستيقظ راسكولنيكوف باردا يتعرق. يدرك دلالة الحلم، ويدرك أنه هو كان الطفل والحصان المجلود والرجل حامل السوط، في آن واحد. مع ذلك، ينهض، يرتدي ملابسه ويتهيأ لارتكاب جريمة قتل.
لواقعة الحصان أهمية خاصة لدى دوستويفسكي، فهي متجذرة في تجربته الحياتية الخاصة. يقدم دوستويفسكي في يومياته، تحت مدخل يرتبط بـ”الجمعية الروسية لحماية الحيوانات”، توضيحا للكيفية التي تنعكس من خلالها علاقتنا بالحيوانات على علاقتنا الأخلاقية بالآخرين. يتذكر أنه في سن الخامسة عشر، كان في رحلة مع أبيه وأخيه حين شاهدوا في الطريق رجلا بزي عسكري، كان قد كرع للتو كأسا من الفودكا، وما إن عاد إلى عربة كان يستقلها، حتى راح يضرب الحوذي على قفا رأسه، من دون وعي. فأخذ الحوذي، بدوره، يجلد خيوله بشدة، “الحوذي، الذي كان بالكاد يتمالك نفسه بسبب ضربات العسكري، طفق يجلد خيوله كل ثانية مثل مجنون؛ وأخيرا جعل سوطه الخيول تجري بسرعة كأنها ممسوسة”. هز حوذي عربة الصبي دوستويفسكي، رأسه أمام هذا المشهد، وأخبره بأن ذلك كان مألوفا، وأن “ذلك الحوذي سيقْدم، في اليوم ذاته، على ضرب زوجته الشابة: “على الأقل، أفش غلي فيك”. يرينا دوستويفسكي بمثال صارخ كيف أن العنف يولد العنف، والظلم يولد الظلم. قصة الحصان، بالنسبة له، “شيئ جسد بالتفصيل العلاقة بين السبب ونتيجته. كل ضربة انهمرت على الحيوان كانت نتيجة مباشرة لكل ضربة تلقاها الحوذي”.

خلال تأليف “الجريمة والعقاب” 1866، كانت قصة الحصان معدة دائما للتوظيف كجزء من التطور الفكري لراسكولنيكوف؛ وبالتأكيد، كما تبين دفاتر تلك المرحلة، حاول دوستويفسكي أن يجد مكانا لقصة الحصان ست مرات على الأقل، في بنية الرواية. وخلال كتابتها، حين كان دوستويفسكي في سن الأربعين، نظر إلى قصة الحصان بوصفها ذكرى تكوينية: “أول إهانة شخصية لي، الحصان، الساعي”. وعلى نحو ملائم، تظهر حادثة مماثلة في رواية دوستويفسكي الأخيرة “الأخوة كارامازوف”، في فصل “التمرد”. في ذلك العمل، نقرأ قصة عن حصان لا يستطيع سحب عربة الحمل؛ “يضربه،” المالك، “يضربه بوحشية، ولا يعود يشعر بما هو فاعل تحت نشوة قساوته، يستمر في جلده مرة بعد أخرى، من دون رحمة”. ونقرأ بأن المشهد “روسي بامتياز”. وعلى نحو مفاجئ، نكتشف أيضا أن هذه الكلمات مأخوذة من “سطور من نكراسوف”- إحالة إلى قصيدة لنيكولاي نكراسوف “أوه بغودا” (حول الطقس)، وفيها حصان “نحيف بشكل مزر” يُجلد حتى الموت أمام حشد من الرعاع الغارقين بالضحك.
كتبت قصيدة نكراسوف بعد “الجريمة والعقاب” – وعليه فحصان دوستويفسكي يبدوا حقيقيا بما فيه الكفاية، حتى وإن هو، فيما بعد استوحى صورة حيوان مضروب تعود لكاتب آخر. ولكن ألم يكن حصان نيتشه هو أيضا حصان دوستويفسكي؟ كان نيتشه في الرابعة والأربعين حين أصيب بانهيار في تورينو – بالصدفة، في نفس عمر دوستويفسكي عندما كان يكتب “الجريمة والعقاب”. كان نيتشه لسنوات يعيش مرحلة وجود انتقالي، ومع كل ما لديه، نأى بنفسه عن جميع المناصب في الجامعات الألمانية بسبب أفكاره اللا دينية وكتاباته المثيرة للجدل. في تورينو، أقام عند عائلة فينو، وفي منزلهم، خلال عام من الخصوبة الاستثنائية وصولا إلى حادثة الحصان الشهيرة، كتب نيتشه ما يعتبر بعضا من أعظم أعماله. لكن ذلك العام، ارتبط كذلك، بتفاقم تصرفاته الغريبة؛ كان يرقص ويعزف لساعات على البيانو، غالبا بنشاز؛ ويرقص عاريا بصخب في غرفته؛ حتى أن مضيفيه عثروا على نقود ورقية ممزقة في سلة المهملات الخاصة به. كان لدى البروفيسور نيتشه، من وجهة نظر صاحب النزل، أعراض تدهور عقلي، مثيرة للقلق.
الحقيقة أننا لا نعرف الكثير بشأن ما حدث في ذلك اليوم القدري، من أيام كانون الثاني، عام 1889. ما من شك أنهم عثروا على نيتشه في الشارع، وهناك روايات متعددة لشهود عيان تتحدث بالتفصيل عن تدني حالته العقلية ابتداء من ذلك اليوم، وفترة بقائه في مصحة عقلية بعد ذلك بوقت قصير. لكن ثمة مصدر وحيد يضيف حصانا إلى القصة: مقابلة مع مضيف نيتشه، أجراها صحفي لم يكشف عن هويته، بعد موت نيتشه عام 1900 – 11 عاما بعد مشيته في تورينو. نقرأ في المقابلة:
في أحد الأيام، عندما كان السيد فينو يسير في فيا بو – أحد الشوارع الرئيسية في تورينو – رأى مجموعة من الناس يتجمعون وفي وسطهم شرطيان محليان، برفقتهم “البروفيسور”. وما إن رأى نيتشه فينو حتى رمى نفسه بين ذراعيه، وتمكن فينو بسهولة من جعل الشرطيين يطلقان سراحه. قالا أنهما وجدا ذلك الأجنبي خارج بوابات الجامعة، متشبثا بقوة في رقبة حصان، رافضا أن يتركها.
وهكذا، رويت قصة حصان تورينو بعد 11 عاما من الحادثة المفترضة، على لسان صحفي مجهول الاسم، أعاد سردها نقلا عن مالك النزل الذي سمعها بدوره من شرطي مجهول الاسم. إن القصة بصيغتها الأصلية الوحيدة كلام منقول عبر ثلاثة مصادر.

“في الثالث من كانون الثاني 1889 أو حول ذلك التاريخ، عانق باكيا حصانا بائسا تعرض لسوء معاملة، في الشارع”.

“صرخ واندفع عبر الساحة، ورمى ذراعيه حول عنق الحيوان، ثم فقد وعيه وانهار إلى الأرض، وهو لا يزال متشبثا بالحصان المعذب”.

“ألقى نيتشه ذراعيه حول رقبة الحصان، والدموع تجري من عينيه، ثم انهار على الأرض”.

“كان نيتشه قد غادر توا النزل الذي يقيم فيه، عندما رأى حوذيا يضرب حصانا في ساحة كارلو ألبيرتو. باكيا رمى الفيلسوف ذراعيه حول عنق الحيوان، ثم انهار”.

بالنظر إلى الظروف، من السهل أن نتخيل أن نيتشه كان ينحب كذلك – وهكذا تبدو إضافة دموعه إلى العديد من الروايات، بشكل عام جائزة. ولكن لاحظ أن رواية فينو للأحداث ليس فيها ذكر للحوذي، وأن ذلك الإيحاء ذاته بأن الحصان قد يكون تعرض للضرب على يد أي كان، تسرب إلى القصة خلال إعادة سردها. (لا يذكر فينو الانهيار أيضا، لكن رسائل كان يتداولها أصدقاء نيتشه في ذلك الوقت جعلت من الواضح أن هناك انهيارا قد حدث). إن إثبات حقيقة الصورة التي تتمركز حولها حياة نيتشه والتي بقيت متماسكة، صورته ناحبا يعانق حصانا، قد يكون الأكثر صعوبة.
هناك عدة أسباب ربما جعلت هذه الصورة تترسخ بقوة في الفهم الشائع لنيتشه. أحدها أنها تقدم صلات بين سيرة حياته ما قبل الجنون وبين أعمال دوستويفسكي. قبل الحادثة بأقل من عام، كتب في “أفول الأصنام” أن دوستويفسكي كان “عالم النفس الوحيد الذي، بالصدفة، تعلمت شيئا منه”. الدرس الذي تعلمه نيتشه من دوستويفسكي هو أن المجرمين يمثلون عقولا قوية تحت المرض – لابد أنه كان يفكر براسكولنيكوف في “الجريمة والعقاب”. وفي نفس الفترة تقريبا، كان لنيتشه أحلامه الخاصة حول الخيول. يصف بالتفصيل في رسالة في العام 1888: “مشهد شتائي. حوذي عجوز بملامح ساخرة بقسوة كبيرة، أقسى من الشتاء، يتبول على حصان. الحصان، الكائن المسكين المحطم، ينظر حوله بامتنان، بامتنان كبير”. يقول نيتشه لمراسله إن الحلم الفظيف كاد أن يبكيه. ربما كان نيتشه يفكر بالخيول عندما تقدم إلى الساحة في صباح ذلك اليوم من كانون الثاني، وكان مدفوعا بهاجس ما نحو أحدها. ربما بالفعل أثارت رؤية حصان يتعرض للجلد، في ذهنه صورة حصان دوستويفسكي المسكين، وشعر بحافز غريب لأكمال المشهد. وربما كان طلاب نيتشه ودارسوه قد سدوا الثغرات في رواية فينو، ووجدوا شيئا من الأدب في حياة الفيلسوف.
هذه فكرة مدهشة على نحو خاص. هناك من يرى على نحو مقنع بأن أعمال نيتشه تمثل فلسفة جمالية – هو يأمرنا بأن نعيش الحياة مثلما لو كنا نكتب الأدب. يكتب في العلم المرح “أمر واحد ضروري – أن “تضفي أسلوبا” على شخصيتك فن عظيم نادر!”. إذا كان نيتشه ينصحنا بأننا يجب، قبل كل شيء، أن نثقف حياتنا وأرواحنا كما لو كنا نبدع عملا أدبيا، ما الذي يمكن أن يعنيه بالنسبة لحياته هو شخصيا أن تقلد بإحكام عملا أدبيا؟ والآن من المثير، بالنسبة للفلاسفة، أن فعل المحاكاة هذا بالتحديد، وسم فقدانه قدرته العقلية. في 1888، كان قد كتب “هذا هو الإنسان”، عمل فلسفي يشبه السيرة الذاتية، بعنوان فرعي “كيف يصبح المرء ما هو”. أيكون الأمر، أنه بمعانقة حصان على طريقة راسكولنيكوف، كان نيتشه يكتب آخر فصول حياته وعمله؟
وثمة أيضا حقيقة رمزية قوة الحصان. بالنسبة لدوستويفسكي، في “الجريمة والعقاب” و”الأخوة كارامازوف”، كما في بعض تجاربه الحياتية، مثلت الخيول ضحالة قسوة الإنسان، ولكن أيضا عمق التعاطف. (أتذكر أبياتا من قصيدة وليام بليك “نذر البراءة”: “حصان تساء معاملته على الطريق/يدعو السماء لتثأر من دماء البشر). إذا كنت قادرا على حب كائن مثير للشفقة، كالحصان، وعلى الإحساس به ومشاركته ألمه، إذاً حب الإنسان هو ما يمكن بالتأكيد أن يستتبع ذلك. قد يكون مغريا أن نبالغ في التشديد على دور حصان نيتشه في حياته، لأننا بالتحديد نشعر أننا مجبرون على قراءته بوصفه مرتكزا محوريا للتعاطف. نيتشه، الذي وجه فلسفته ضد مفاهيم شوبنهاور عن الشفقة والرأفة، سيبدو هو ذاته برهانا على تفكك فكره، إن كان هو نفسه، في لحظة عاطفية جارفة، قد انهار على ركبتيه لمرأى حصان مجلود. (من الصعب القول إن كان يساعد أم يعيق فرضية التعاطف، الزعم بأن نيتشه كان، في أواخر سنوات جنونه، يردد من دون توقف بضع عبارات مقتضبة، من بينها “لا أحب الخيول.” ومن المثير لقرائه أن يتخيلوا أنه، بمعانقة حصان، كان نيتشه يضع نهاية لمهنته، كفيلسوف وكاتب، على أنها فشل ذريع – كان يعترف، ليس بالكلمات بل بالفعل، بأننا لا نستطيع أن ننسل خارج حدود العاطفة. “الإنسان،” قد يقول “مفرط في إنسانيته”.
في فصل متأخر من “خفة الكائن التي لا تحتمل”، يبدو كونديرا قد اختار هذا التأويل للواقعة عندما كتب أن “نيتشه كان يحاول الاعتذار للحصان عن ديكارت”. ففي حين زعم الفليسوف رينيه ديكارت أن الحيوانات فعليا مكائن فاقدة للروح، موجودة فقط لخدمة الإنسان ومنفعته، جاء نيتشه، حسب رأي كونديرا، لإعادة الروح إلى الحصان – ليرى فيه قرابة مع كينونته هو. قراء نيتشه الذين يؤيدون وجهة النظر هذه، يبدو أنهم يريدون أن يصدقوا بأنه رمى ذراعيه حول ذلك الحصان، لأن ذلك، في جانب منه، يمكن أن يُرى كآخر بلاغة يكمل بها كتابات حياته (وكتابة حياته)، ولكن من جانب آخر، لأن ذلك يبدو أنه يناقض، على نحو مدمر، مواضع كبيرة من فكره. صح ذلك أم لا، إنه الآن جزء من الكيفية التي نفهم من خلالها حياته، وهو الآن حجر، من السهر أن يرميه نقاده، ويمكن أن يهدم أبنية في فكره ربما لا نجدها اليوم مستساغة. بالتأكيد، أي شخص يرغب في تأويل قصة حصان تورينو بوصفها قصة حول فهم الآخرين، سيجد سندا في سطور كتبها نيتشه في العام ذاته، حول حيوان آخر مثقل بأحماله: “هل يمكن للحمار أن يكون تراجيديا؟” – أن تهلك تحت حمل لا تستطيع حمله أو رميه؟… حال الفيلسوف”. الحمار والفيلسوف، متحدان في فشلهما في تحمل حمل – ثقل الكائن، الذي لا يحتمل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *