قصة: هنا وهناك
للقاصة السورية: روعة سنبل
هنا وهناك
أدارتْ وسادتها قبل النّوم مرّتين متتاليتين عكس عقارب السّاعة، كلّ مرّة تسعين درجة، لا تكفّ عن هذا الطّقس في كلّ ليلة من ليالي ميلادها، لا تذكر بالضّبط متى بدأتْ به، أو من أين تعلّمتْه، لكنّها تفعله دوماً، يغريها شبهُ يقينٍ أنّ الأمور السّحريّة إن كانت مقدّرةً على المرء، فستحدث يوم مولده؛ كانت فيما سبق، ترفقُ طقسها بأمنية قبل أن تضع رأسها على الوسادة مجدّداً، لكنّها في السّنوات الأخيرة كفّت عن زرع الأمنيات.
أيقظها ألمٌ نابض في رأسها قبيل منتصف الّليل، أخبرتها الظّلمة أنّ الكهرباء مقطوعة، سحبتْ المصباح اليدويّ من قرب سريرها، وسارتْ على ضوئه الخافت، مرّت على غرفة نوم طفلتيها، أحكمتِ الملاءات فوقهما، ثمّ اتّجهت للمطبخ.
فتحتْ درج الأدوية الفوضويّ، قرّبتِ المصباح، بعد قليلٍ من البحث، وجدتْ ظرف دواء مسكّن، استخرجت منه حبّتين حمراوين تشبهان حبّات فاصولياء، فتحتِ الحنفيّة لتملأ كأس الماء.
همّت بابتلاع الحبتين، خطر لها التّأكّد من تاريخ صلاحيّة الدّواء، ضمّت كفّيها على الحبّتين، وعادت للدّرج، بصعوبة وعلى ضوء المصباح الخافت قرأتْ بخطّ صغير تاريخ الصّلاحيّة المنتهية منذ شهور، فتحتِ النّافذة، ألقتْ غير مبالية الظّرف والحبّات، فتّشت عن مسكّنٍ آخر، فعثرت على دواء بتركيبة أكثر فاعليّة، ابتلعت حبّتين، وعادتْ للنّوم.
قبل الفجر بقليل، أيقظها ظمأٌ شائكٌ في حلقها، خرجت لتشرب، بضوء الفجر الشّاحب رأتْ من النّافذة شجرة فاصولياء عملاقة، كتلك التي ظهرت للصّبيّ “جاك” في القصّة المشهورة !
أدارت ظهرها للنّافذة، وشربتْ كأس الماء، ضحكتْ لجنون الفكرة، أكّدتْ لنفسها أنّها تهلوس بفعل العقار الذي تناولته منذ ساعات، فركتْ عينيها، نظرتْ مرّة أخرى، فرأتها!
أغمضتهما مراراً وفتحتهما، صفعتْ نعاسَها بدفقاتٍ من ماء بارد غسلت بها وجهها ورأسها ، نظرت مجدّداً، لكنّ الشّجرة بقيت هناك!
فتحتِ النافذة، مدّت ذراعها بتحدّ، فلمستْ ساق الشّجرة بيدها، وطارت بقايا النّوم من رأسها. صحيحٌ أنّها كانت تتوقّع شيئاً سحريّاً في ليلة كهذه، لكنّ شجرةً عملاقة متفرّعة، شيءٌ يفوق توقّعاتها!
ركضتْ لغرفة النّوم، أخذتْ هاتفها المحمول، وضعتْه في جيب بنطال منامتها، خرجتْ من النّافذة بحذر، وكما يليق بجنونها، تسلّقتِ الشّجرة دون تردّد!
لا تدري كم استغرق تسلّقها، ظلّت الأشياء في الأسفل تبدو أصغر وأصغر، أبعد وأبعد، وصلتْ إلى غيمة كبيرة، أدارت بصرها حولها، بحثت في الأفق عن قلعة، أو قصر، أو بيت، لكنْ عبثاً، امتدّ أمامها مدى فارغ.
شعرتْ بالرّعب والوحشة، أدارتْ ظهرها كي تهبط الشّجرة، من خلفها أتاها صوته:
– “كلّا!”
التفتت لتجد مارداً!
لم يكن ذا خلقة دميمة، أو كرش كبير كمارد الحكاية، ماردها له وجه وسيم، عينان ساحرتان، وصوت دافئ.
ارتجف قلبها، سرَتْ قشعريرةٌ في جسدها، وانعقد لسانها، نظرتْ مستفهمةً ، فقال بلهجة لطيفة :
– “صعدتِ بملء إرادتك، لكنّ الأمر مختلف في النّزول!”
مدّ كفّه الكبيرة نحوها، بسطها على الغيمة أمامها، أشار إليها برأسه مبتسماً، تردّدتْ أولاً، ثمّ باستسلام صعدتْ على كفّه، فرفعها نحو كتفه، وضعها هناك برفق، جلست كبّبغاء القرصان في الحكايات:
– “ستكونين أسيرتي، بملء إرادتك.”
نقَفَ بسبّابته الشّجرة فهوت نحو الأسفل، بصوت ارتطام بعيد.
– “كيف سأنزل الآن، كيف؟!”
صرختْ وقد اجتاحتها نوبةُ جنون، خدشتْ وجهه بأظافرها، ركلتْ وجنتيه بقدميها، ظلّ يبتسم بهدوء، ارتسمتْ على خدّه، أمامها مباشرة، غماّزة عميقة، أطول منها بمرّتين تقريباً.
هدأتْ سورة غضبها شيئاً فشيئاً، ربّما لأنّ المارد مارس سحراً ما، أو لأنّها أرادت تجربة الحلول التّفاوضيّة، أو ببساطة، ربّما استهوتها الغمّازة، أو راقت لها الابتسامة!
جلستْ على كتفه، قالت بصوتٍ هادئ، متمنّع بدلال، مشيرةً للأسفل :
– “لا أستطيع، لي حياة كاملة هناك: بيت، زوج، وطفلتان، لديّ حقّاً ارتباطات، ربّما أعود لزيارتك لاحقاً، أعدك.”
مدّ كفّه مرّة أخرى نحوها، نحو كتفه، وقفتْ، انتقلتْ إليها، وضعها بهدوءٍ على الغيمة، أخرج من جيبه جهازاً محمولاً، شغّل تطبيقاً ما، كتب اسم مدينتها في خانة مخصّصة، ضغط خيار البحث، على الشّاشة فظهر مخطّط المدينة، ضغط خيارالاقتراب مرّاتٍ متتابعة، فظهرت على الشّاشة مباني الضّاحية التي تسكن فيها، فالشّارع، فالبناء، اقترب أكثر، أكثر، فظهر مطبخ بيتها !
رأت نفسها هناك، تحضّر الحليب لطفلتيها الجالستين أمام المدفأة، سمعت صوتها تقول بنزَق :
– “هيا بسرعة، ضعا الطّعام في حقيبتيكما.”
ثمّ تمسكُ مشطاً، وتنادي لابنتها الكبرى كي ترتّب لها شعرها.
أغلق المارد جهازه، ابتسم.
احتوتها راحة كفّه بحنان، قال مداعباً :
– “أترين كم تبدين جميلةً من الأعلى؟! “
ابتسمت بخجل، طبعت قبلة على بطن كفّه، ونامت في راحته الدّافئة، فهمتْ أنّها بطريقة ما كانت هناك مع أنّها هنا!
لا زالت، حتّى اللّحظة، هنا وهناك، هناك وهنا، تعيش حياتين متوازيتين تماماً، وهي بكُليّتها فيهما معاً! وجدتِ الأمر في البداية مغرياً ساحراً، لكنّ هذا الفصام بمرور الوقت صار مرهِقاً مجهِداً، خاصّة أنّ المارد صار يتركها أيّاماً في منفاها العلويّ، لا تدري أين يغيب، ماذا يفعل، أو مع من يكون؛ يعود أحياناً غاضباً، أحياناً سعيداً، وأحياناً مجنوناً، حاولتْ أن تتفهّم مزاجيّته ، أقنعتْ نفسها أنّه، ولو طال غيابه، سيعود إليها حتماً.
تسلّي نفسها في وحدتها، تقرأ كثيراً، تكتب أحياناً، تستمع للأغاني، وتشاهد الأفلام .
يتسرّب الملل إليها أحياناً، يرهقها الانتظار حتّى تكاد تختنق؛ مؤخّراً، استطاعت ابتداع طرق جديدةً لتزجية الوقت، وكسر الرّوتين، تتسلّى أحياناً بخطوط الغاز المغذيّة للمدينة، تهاجمها، فينقطع التّيّار الكهربائيّ، تغرق المدينة تحتها في الظّلام، وتغرق هي في نوبة ضحك.
ترسم أحياناً قوس قزح في السّماء كيفما اتّفق، لا تحفظُ بدقّة ترتيب تتالي الألوان فيه، لا ينتبه أحدٌ لعشوائيّته، يبتهج النّاس، فتبتهج.
تصطاد أحياناً غيمات شاردة، تفتفتها، تبعثرها قطناً صغيراً، قارساً، تنثرها فوق رؤوسهم، يشعرون بالبرد، يصاب بعضهم بالزّكام، فتحزن.
هذه المرّة طال غياب المارد، أيّاماً، ربّما شهوراً أو سنوات، لا تدري على وجه الدّقة، فالأيّام في الأعلى متشابهة، لا تكاد تميّز أمسها من غدها، أسيرةٌ هي، نادت حتى بُحّ صوتها، توجعها حيرتها، تختنق، تختنق، تفكّر مراراً في رمي نفسها من الأعلى، لكنّها تخشى على أناها في الأسفل أن تموت معها، وتشفق على طفلتيها من دونها.
تنتابها حالات اكتئاب، يضيق المدى، وتسودّ السّماوات، تسأم، تنقم، فترجم النّاس بالحجارة، أو تلقي عليهم زخاّت رصاص، أو تمطرهم بقذائف عشوائيّة، تسمعهم يلعنون الحرب، تراقب الصّاعدين نحو الأعلى، تلوّح لهم فيلوّحون، تشير لهم ليقتربوا، يكتفون بالابتسام، ويتابعون صعودهم، تعود لوحدتها، تندم بعدها، تندم كثيراً!