التّبر وطائر السعد

سعد محمد موسى: فنان تشكيلي وكاتب عراقي

التّبر وطائر السعد
نص ولوحة

في ليلةٍ صيفية مقمرةٍ، جذبني مقهى عتيق في ريف انجليزي يقع شمال لندن كان يعج برائحة القهوة البرازيلية.
كان المقهى مشيداً من الحجر الأسود وخشب الابنوس جلست في إحدى زواياه القريبة من نافذةٍ كانت تمتد من وراءها سهول خضراء داكنة تتثاءب تحت ضوء القمر فتنأى بعيداً لتعانق الأفق.
كانت السماء صافية وعلى حين غرة أخترق الفضاء نيزكاً وكأن الكوكب قد غضب ثم القى به بعيداً نحو المجرات الأخرى مثلما طرد الله آدم وحواء نحو الأرض !!
سطع النيزك صارخاً بقوة ألقه ثم تشظى، وتصاعد بعيداً في أعماق السماء، ليتهاوى متلاشياً الى الاسفل كالصدى يستعيد فراغه وهو يأفل ويخر صريعاً من قبة سماء الليل ليسقط في نهايات الوديان.
فاستحالت ذاكرتي كفضاءٍ حلقت فيه أقمار وقصص لقرى جنوب العراق البعيد.
وحكاياته المنسية خلف أسوار الاساطير الطينية وأحجياته الشعبية العالقة في ذاكرة الطفولة.
حينما كنت أقضي عطلتي المدرسية الصيفية في ريف بائس يسمى “الشوفه ” وكانت هذه القرية تسترخي ما بين مدينة الناصرية وقضاء الغراف شمالاً.
كانت نسوة الريف آنذاك يتناقلن حكاية شعبية قديمة مردها : إذا مر الشهب أو اخترق النيزك في لحظة خاطفة تلك السماء الصافية أثناء نوم الناس فوق سطوح الطين الملتحفة
بالتراب فسعيد الحظ حينها هو الذي يبادر بسرعة الضوء وبسرعة إختراق النيزك أثناء تألقه أن يقبض بكفه على حفنة تراب ثم يضمها تحت وسادته ليلاً, وعند الصباح التالي ستستحيل حفنة التراب تلك الى سبيكة ذهبية.
فكان شبق الفضول للحصول على خرافة الذهب جعلني أراقب السماء طويلاً وفي كل ليلةٍ كنت أعد النجوم وأحاور المدارات منتظراً الشهب بينما سبابتي على زناد التراب كصياد متأهب لاقتناص فريسته.
غالباً ما كان النعاس يغلبني فتفيقني شلالات الشمس الذهبية في بواكير الصباح التالية.. ويبقى الحلم والأمنية يعاوداني مرة أخرى وأنا انتظر الليل ونيازكه الذهبية مرة اًخرى.
ولم أسمع بأن أي أحداً من قبل شاهد هذا الطائر.
تتيقظّ هواجسي وأمنياتي لحكاية أخرى وهي استراقة السمع لتغريد الطائر الذي ينتظره الجميع ومنذ الازل في تلك القرية وقد كان القرويون يسمونه “طائرالسعد”، هذا الطائر الذي يحلق في فضاء الالغاز متخفياً وخجولاً
يمر طائر السعد بلحظة خاطفة كالشهب أو كنجمة عاشقة تتهاوى في أحضان القمر الوحشي يعبر قباب النخيل وسطوح البيوت الطينية وسقوف الصرائف.
عندما يحلق لمرة واحدة فقط في السنه كان بعض الناس يسمعوه يصدح في الغبش ثم سرعان ما يتوارى خلف البساتين الغافية بأحضان السكينة, وكان غناء هذا الطائر يجلب الفآل الحسن والمصباح السحري لكل من يسمعه في شفق القرية.
ولكن ينام الليل ويستفيق الفجر وأنا انتظر مرور الشهب وحلم التبر أو سماع صوت طائر السعد.

• • • 

سعد محمد موسى: فنان تشكيلي وكاتب عراقي يقيم في ملبورن/ أستراليا 

(*) اللوحة للفنان العراقي: سعد محمد موسى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *