وحشية أمريكا و رقبة الرجل الاسود
جمال أكاديري
– الأمريكي من أصل أفريقي ، الذي قتل خنقا تحت ركبة ضابط شرطة أبيض، أصبح شعارًا لعدة احتجاجات عنيفة مازالت تدهم ، ربوع الولايات المتحدة الأمريكية.
أثار مقتله، بتلك الطريقة البشعة ، الغضب والحنق والتمرد ، وأجج مزيدا من التظاهرات والاحتجاجات، نتج عنها أعمال شغب ، على مدى أيام وفي عدة مدن كبرى .
مشهد فيديو اعتقاله في ذلك الوضع المهان ، مرميا مصفدا وركب الشرطة فوق جذعه و رقبته ، جريمة لاتستساغ و لا تطاق ، بإجماع هيئات العالم ومنظماته الحقوقية
– وكما انها ، ” لاتطاق” ، ثم هي من وجهة نظر عناوين صحافة العالم ، تصنف من المشاهد المأساوية المألوفة ، وكأن تاريخ العنصرية يعيد نفسه، ويعيد تسميم سيولة الحياة اليومية العادية لفئات الملونين المنحدرين من أصول افريقية ، وخدشها بتصرفات التمييز المقيتة التي تؤدي عند تكريسها إلى القتل !!
الصادم الآن ، في العصر الحديث، وفي بعض المجتمعات الغربية، كما هو الحال في أمريكا ، هو هذه المفارقة العجيبة ( التي مازالت تؤشر عليها الدراسات السوسيولوجية في خلاصتها ) كيف ان السلوكيات المتحضرة ، نسجت ألفة غير مقبولة و طُبِّعت ( من التطبيع ) مع بعض مشاهد أعمال عنف الشرطة الصادمة ؛ وهي أعمال عنف اعتادت تطويق ضواحي المدن الكبرى ، مستهدفة في دورياتها الفئات الهشة ، المهمشة اقتصاديا، والتي تتكوّن غالبيتها من أقليات الأمريكيين الأفارقة واللاتنيين .
– ، وبعبارة اخرى ، هذه المآسي ترسخت اعلاميا في أدمغة مدمنيها من المشاهدين الآمنين، حتى أصبحت مألوفة. ولم تكن تطرح تساؤلات بكثرة ،
على الرغم من الغضب والمعاناة والظلم الصادم الناتج عنها ، كأن لا شيء سيتغير ابدا في ضواحي الجيتوهات الامريكية ، وهكذا تبخر معها السؤال الأهم ، لماذا هذا الانحراف الإنساني القيمي ، صار من العادات المألوفة المنمطة ، و غدا من مخلفات المشاهد المأساوية المنتظر معاينتها كل حين و المتوقع حدوثها ؟!
– فالحقيقة البشعة تقف صامتة وراء هذا المشهد (مشهد ركبة الشرطي على رقبة رجل اسود ) مطئطئة رأسها :
فلقد ظل التمييز العنصري مستمر ، لأن المسؤلين السابقين لم يروا أي خطأ جوهري في النظام الأساسي للحقوق والامتيازات في أمريكا ؛ أي كيف كان يتم الحصول عليها وكيف يتم إستثناء البعض منها بوحشية .
فكأن الكل ، ينكر أو يهون، ما يعاينه هو بنفسه ، مرارًا وتكرارًا من خلل ، في الرعاية الصحية ، وفي خدمات التعليم ، وخاصة عند إفراط الشرطة في استخدام أساليب التعذيب الممنهجة وشططها عند التدخل . فهذا التجاهل، هو الذي كان يعيق الآخرين، دون وعي منهم ربما ، لتقدير المخاطر المقبلة التي تتربص بتوازن المجتمع الأمريكي وتهدد حتى ماهية وجوده ومصيره .
كل عام ، في أمريكا خاصة ، تسجل الدراسات والإحصاءات و الاستطلاعات بامتعاض ، وتدين عدم ملاءمة تلك التدخلات العنيفة المدبرة من طرف دوريات الشرطة ، (بحجة تطبيق القانون ) ، و تسطر بالخط الأحمر على عدم مناسبة أساليبها الامنية لعلاج بعض المخالفات القانونية المرتكبة من طرف أمريكيين من أصل أفريقي.
بل أحيانا، توضح ان هناك فعلا عنصرية مغذاة، وتحتمي خلف ظل الحصانة الممنوحة لفرق الشرطة الأمريكية، تعيد انتاج ذاتها في تكتم،لأن المؤسسة الامنية ، بحكم التجربة و العادة، صارت حاضنة لها بنيويا ؛ هذا وحده ربما يستطيع ان يفسر بجلاء هذا التمييز العنصري غير المبرر و المتكرر في استعمال القوة بشطط ضد مهمشي الضواحي.
.
ومع ذلك ، سواء تم شجب هذه التجاوزات أو تفسيرها ، سواء كانت تثير الغضب أو السخط ، فقد أصبح عنف الشرطة الامريكية عملًا متلفزا “عاديًا” ومطبعنا معاه .
كان الكل متواطئ ، لاشعوريا ، دون أن يدري ، ويقبل على رؤية هذه الظلم بانتظام في وسائل الإعلام ؛ مشاهدته في حالة تخدير سلبي وشلل ذهني ؛ لأنه حتى عندما سيحتج الإنسان الأمريكي العادي مثلا ، و حتى عندما يدين الخساسة البشعة لهذه الأفعال ، لا يبدو أن لديه ما يفعله للقضاء ، على هذه الظاهرة ، التي لا تريد أن تختفي بالمرة ، من على صفحة مشهد التاريخ الأمريكي المعاصر.
لأنه ، إذا تساءلنا ، ما مقدار السخط والمعاناة والدراسات اللازمة للتحدث والفضح علناً ، وكم من الغضب وأعمال الشغب والتخريب والتجمعات والتظاهرات يمكن أن ترسل رسالة تظلم و تساهم في تغيير الأمور ؟ فهل هذا كله يمكن إيقاف تكرار المأساة؟
ينبغي الاشارة ، الى ان كثير من الامريكيين ، لم يعودوا يقبلون الاشاحة بعيونهم ؛ فعدم التطبيع مع مشاهد الظلم، وعدم قبول المواقف التي يتم فيها نزع الحقوق ، أو إساءة معاملة المواطنين عنوة ، او عدم فعل أي شيء لحماية الكرامة الانسانية وتعزيز الحق العام ، الذي الكل فيه متساوون ، صار بالنسبة لهم شيئا لا يحتمل ؛ هكذا إذن لايستسلمون ولايتركون ورم اللاعدالة يتورم ويتسرطن و يتضخم فلهذا خرجوا كما لم يفعلوا من قبل ……
– وكذلك ربما بشكل غير مباشر ، للبرهنة ودحض فحوى ما جاء في قولة احد المفكرين الامريكيين التي عبر عنها في حالة يأس ،:
” سوف يستسلم الناس ولا يثورون عندما يبدؤون في الاعتقاد بأن الظلم أصبح لا مفر منه !! “
– أمريكا ، إذن ، على إيقاع زمن اخر ؛ استيقظ فيه ضمير الناس على بشاعة اتساع نطاق الظلم ، و على تسرطن أورام اللاعدالة، التي يتعرض لبطشها ، منذ عقود ، أجيال من المحرومين المبعدين من عطايا رأسماليتها المتوحشة .
المشاكل تزداد ضخامة. وباء كورونا قتل ما يزيد على مئة الف أمريكي ، ولا توجد مؤشرات ، حتى الآن ، على وجود لقاح ، كما وعد الرئيس المتعجرف ترامب ، أو حتى امل في تباطؤ الوفيات في جميع أنحاء الولايات الأكثر تضررا بسبب انتشار العدوى .
الاقتصاد مترنح . الملايين من الأمريكيين الناشطين ، في القطاعات المهمة ، عاطلة عن العمل . لا توجد إشارة إلى ان المعافاة من الكساد قريبة . وان فرص خلق الوظائف الجديدة ستأتي أكلها . والمساعدات المقدمة من شيكات الحكومة الأمريكية ، لم تكن كافية لإطعام عائلات الطبقات غير المتوسطة ، فكيف بالاحرى دفع ديونها الاستهلاكية والقروض العقارية التي تثقل كاهلها .
لهذا بدأت الاحتجاجات مليئة بالغضب العفوي واستمرت دون انقطاع ، رغم ان معظم المنخرطين فيها من المسالمين ، لكن انزلق بعضهم إلى العنف والتخريب . وصرخ جميع المحتجين مقتنعين بأن الظلم ليس حتميا ، لهذا رفعوا شعارات من هذا النوع .
– هذه ربما علامة، على أن الأمريكيين سئموا أخيراً ، من الإثراء المالي الأحادي الفاحش و غير العادل الكابح لعدالة توزيع الثروات و الفرص ، والذي يتم تجاهله وعدم الإشارة إليه ، بدعوى حجة الاستحقاق ، مع التستر على الوحشية الرأسمالية المتغولة الكاسحة ، التي تدهس كل شيء تحت دواليبها ، و تلمع خطواتها الجبارة متحججة بأسطورة الازدهار ، المروج لها بقوة ، في منتديات النخب الامريكية .
– الآن، و امام ما خلفته موجة الاحتجاجات من ورائها ، ربما تلك المحلات الفاخرة المخربة والسيارات المحروقة و نوافذ المباني المكسورة صارت ترمز إلى
الأجساد المنهكة والحياة البئيسة لشعب تلك الأحياء الهامشية المطوقة، بشبح البطالة والفقر المدقع ، التي يريد فريق ترامب الانتخابي وإدارته القفز عليها وطمسها سياسيا واعلاميا، لأن إصلاحها أو الاعتناء بها أمر صعب ومستنزف ومكلف للغاية.
.
– حادثة ،” ركبة الشرطة على رقبة الأمريكي الأسود “، هي ليست حادثة عابرة ، إنها ثقل حقيقة الكابوس الرازح، يشير في اتجاه ما تصارعه أمريكا دائما ولم تتمكن من التغلب عليه.
هي رمز لركبة فاحشي الثراء تدهس رقاب أولئك الذين هم الأكثر فقراً وضعفاً وهشاشة ، في قلب طواحين المجتمع الأمريكي المعاصر ، فهل ستتجاوز أمريكا، يوما ما، مثل هذه المآسي المتكررة، ربما عندما ستستفهم و تتساءل بيأس ، لماذا لا يزال هذا يحدث؟ وتجد له حلا مقنعا غير العنف .
جمال اكاديري كاتب – باحث