(المفهوم و الرؤى… قراءة في عمارة (زَها حديد
الكاتب العراقيّ: جاسم عاصي
المعمارية (زها حديد) شأنها شأن المعماريين في العالم تكتنف وجودها العقلي جملة أفكار، لم تكن بطبيعة وضعها ضمن حيّز البناء العقلي، الذي يداور الأفكار وحسب، وإنما كان الحيّز أو الوجود المادي العملي ميداناً لتنفيذ أفكارها في العمارة.
إنها بطبيعة الحال تحمل عدّتها المعرفية، وطبيعة الحراك في بنيتها العقلية والذاتية والذهنية، وضمن معارف اختصاصها. فهي واحدة من مجموعة معماريين عراقيين، اهتموا بأفكارهم التي تخص العمارة وطوّروها، عبر رؤى جديدة وتراكم في التجربة، تمخضت عن خبرة عميقة في مجال الاختصاص. ناهيك من أن المعماريين العراقيين حصراً، ترعرعوا ضمن تجمعات الفنانين التشكيليين من جيل الرواد، فامتزجت رؤيتان قارتان في أفكارهم وتصميماتهم ضمن فن العمارة، ناهيك من ثقافتهم ومعرفتهم بالمعمار العربي الإسلامي، ودراسة مكنونات الحرف العربي ومرونته في تشكيل هندسة تشكيلية، أثارت معظم من اشتغل في حقل الفن والمعمار، بحيث أصبح المعماري فنانا تشكيلياً بامتياز، كذلك الفنان التشكيلي. لذا نجد أن المعمارية بطرح أفكارها، إنما تحاول تهيئة فرشة معرفية رؤيوية تطبيقية، فيما يخص حياتها المتعلقة بابتكار أساليب العمارة، فهي تؤمن بمقولة (أنت لا تدخل النهر مرتين) لذا فالتبدل في الحياة، وجه مميّز في طبيعة رؤاها واهتمامها بفكر التجديد والتجريب، على صعيد العمارة وتصميم الأثاث والمستلزمات الأخرى في الحياة، كالحقائب والديكور والأحذية والحلي. من هنا يتوجب طرح أفكارها ورؤاها للتحليل. ليس لشيء، وإنما لزيادة تعميق تجربتها في ذواتنا، وبالتالي تنمية ذائقتنا في مجال فن العمارة. وآخرها لتكون لناّ خير مُعين في إزالة القشرة متراكمة الطبقات التي تحول بين اتساع الرؤى وانغلاقها.
ذكرت في ما يخص شخصيتها المهنية التي أسفرت عن شخصيتها الوجودية المتفردة. فكانت أطروحاتها تتناسب وتطبيقاتها العملية فحين ذكرت قائلة: «أنا لست أوروبية، ولا أنتج أعمالاً تقليدية. كما أنني امرأة. وهذه العناصر مجتمعة سهّلت الأمور عليّ من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى جعلتها شديدة الصعوبة» فهذا يعني توفير الفرصة للتدقيق في مثل هذا، وفي ما لها من رؤى وأفكار كما ذكرنا. فمن حيث كونها ليست أوروبية، يعكس طبيعة سياقها العملي والنظري، عدا عن التأثر أو فقدن الهوية. فهي لم تقل أنا عربية وعراقية أو شرقية، لكنها قالت ذلك بمفردة واحدة أكثر بلاغة في التعبير. ونرى أن هذا الاختزال في التعبير يحمل بلاغة وإيجازا منقطعي النظير. ثم إنها لا تنتج أعمالاً تقليدية، وهذا يصب في مركز تجربتها المهنية في التصميم. فهي تبتعد عن السائد والقار. أما كوّنها امرأة، فهي تُحاكي الذهن الشرقي، الذي يضع المرأة ضمن رصيف الوجود، ويربطها بممارسات مصممة لوجودها المادي كجسد. زها هنا قلبت المعادلة بذكرها ذلك، حيث أكدت على أن هذه العوامل وغيرها من سهّل لها مهمة العبور إلى الضفة الأخرى المغايرة وغير المقطوعة عن الجذور، كما أثبتت جملة الدراسات التي خصّت تجربتها، وحصراً رأي المعماري خالد السلطاني في تجربتها. فزها إضافة لتجاوزها كل تلك العقبات والمعرقلات أمام امرأة شرقية، إلا أنها لم تنف مدى الصعوبات التي واجهتها في حياتها ضمن علم العمارة والتصميم. فيما تؤكد على التميّز الذي حدث لعملها في شخصها المعماري والمعرفي، فتقول «نجاحي يعود إلى شخصيتي القوية، وليس إلى كوّني امرأة». فبين شخصيتها القوية وكونها امرأة ثمة مفصل مهم، وهو أن التميّز والنجاح لم يأت بسبب كونها امرأة تتحدى الصعوبات، بحيث تدور حوّل منجزها نظرة الآخر في تقدير إمكاناتها في العطاء، وإنما في تنمية شخصيتها القوية بالمعرفة والاستزادة من معين الاختصاص. وهنا يكمن النادر في الشخصية، وبالتالي الصعود بها إلى التميّز، وفق مقياس القوة المعرفية وليس السلطوية، كما هو حال النساء عبر التاريخ، وتميّز سلطتهن عن سلطة البطريارك أيضاً.
أما في مجال طبيعة عملها وخصائصه، فإنها تصفه بكل بساطة، بدون وضع التنظيرات لتأكيد مثل هذا التوّجه، فهي عازمة كقريناتها في العمل الجاد والمثمر في صياغات جديدة: «أنا لست بالضرورة من المختزلين في العناصر التصميمية، بل أؤمن بأن علينا استخدام كل العناصر المتاحة لضمان النجاح، لأن فكرة الراحة أمر مختلف». وبهذا أكدت على الوازع الذاتي في صياغة الأشياء، مستندة في هذا إلى تقديرات الآخرين الذين يهمهم النجاح من خلال الابتكار، وليس غيره، مثل المعماري (كولهاس) الذي أكد على سر النجاح الذي يمكن أن ينجزه المعماري العربي، في ما لو انطلق من فهمه لحيثيات مكوّناته المعرفية، كاللغة الكامنة فيها طبيعة الحرف. ويقصد بذلك الحرف العربي، لذا يحوز مرونة شكلية، وقابلية على التواؤم وإدامة الصلة ببقية الحروف. إن الرشاقة في الحرف العربي، تؤدي إلى شحذ الذهن واستنهاض الملَكة، بما يُحقق الصيغة الجديدة. فقد أكد كولهاس على أن المعماري العربي قادر على عمل تعبيرات منحنية أكثر من غيره، ما جعله يفكّر أن ذلك ناجم عن خط الكتابة العربية. من هذا وغيره خُلق للمعمارية زها عقل نشيط، وذهن متوّقد، يستطيع مواءمة الأشكال، من أجل استنباط شكل مغاير، فهي على قناعة تامّة بأن التعقيدات والحيوية للحياة المعاصرة، لا يمكن صبّها في قطب تلك الشبكات والمكعبات الأفلاطونية لأكثر مدن القرن العشرين الصناعية. الآن ومع بداية القرن الواحد والعشرين أصبحت حياة الناس أكثر مرونة ومتعوّلمة.
ما يمكن الحصول عليه من استنتاج من مجمل ما صّرحت به المعمارية، الذي هو مجموعة رؤى وتصوّرات تخص مبدأ إنشاء العمارة على أسس مغايرة، بحيث تظهر على أشكال مبهرة وغير صادمة للبصر.
وهذا ما يجعلنا ملزمين بالتعامل مع مجتمعات أكثر تعقيداً من سابقتها. وهذا يتطلب معماراً جيداً، ذا انسيابية وتجانس في الرؤى كبيرين. وهو ما تتصف به في المجال العملي التنفيذي، من مرونة وانسيابية تحاكي متون الخيال. فتصميم البنايات أو قِطَع الأثاث ــ كما ذكرت ــ ينبع من ذات الشيء. ففكرة المرونة والتمدد والتمطط فيها ابتدئ من مشروع (متحف وغنهايم) في تايوان، ثم تحوّلت إلى نصب اسمه (إيلا ستيكا) في ميامي، والآن إلى طاولة (فيترا). فقد تعدت كونها مجرد طاولة إلى منظر طبيعي. كانت مجموعة (سيملاس) في كل هذه الأعمال تقوم على الشكل العضوي، ما يدل على أن كل المشاريع مترابطة بشكل أو بآخر. وما هذه الاجتراحات إلا تعميق للتجربة المنفتحة على التجديد والابتكار. فهي تؤكد قائلة «طالما داعبتني فكرة تصميم الأشكال الفنية المتحركة، ومثلّت بالنسبة لي تحدياً لترجمة العقل، أن يولي لي مادياً حس مثير من خلال استعمال بيئة جديدة وخامات غير متوّقعة»، وهذا ما حصل تماماً في العمل الذي يحتفل بالحقيبة الأيقونية لدار (شانيل) أرى هذا المتحف المتحرك، كمالا فنيا بحد ذاته من حيث قدرته على إعادة صياغة نفسه وشكله، كلما تنقّل إلى وجهة جديدة من العالم.
هذه المخاضات والرؤى الواسعة، دفعت بها إلى توسيع مشاريعها وتنفيذ ما يُثير من الأشكال في حقول كثيرة من التصميم والابتكار. معتمدة في هذا على مفاهيم متجددة في فن الهندسة والموّضة، التي هي أشكال وجدت للاستعمال، ومن أجل المستهلك، وبالتالي فإنها تهتم بمنح الإنسان السعادة وتحسين كل مناحي حياته. وهي القائلة، الحياة العصرية تتغيّر، والموّضة والهندسة أيضاً تتطوّر حسب هذا التغيير. أعتقد أن الجديد لدى جيلنا، هو نسبة التعقيد الاجتماعي. الأمر الذي بات ينعكس على المعمار والموّضة معاً. لم تعد وصفة بسيطة غير معقدة، كما هي ليست حلولا كونية. فكرتي هي أن أبدأ بأفكار تقليدية في التصميم، على أن أحمله إلى متون جديدة، وأسبغ عليها العصرية والغرابة.
ما يمكن الحصول عليه من استنتاج من مجمل ما صّرحت به المعمارية، الذي هو مجموعة رؤى وتصوّرات تخص مبدأ إنشاء العمارة على أسس مغايرة، بحيث تظهر على أشكال مبهرة وغير صادمة للبصر. كل هذا يدل على طبيعة العقل الذي يُحرّك شخصية زها المعمارية، ويستنبت فيها رؤى قارّة بالنسبة إليها، بحيث تكون جازمة في خلق الموقف أو المبدأ الذي تسير وفقه بعلمية دقيقة. مستلهمة من الخيال، أسس تقريب الواقع من الحلم. إننا إزاء أحلام مؤجلة تركتها في ذاكرتنا متون الحكايات والقصص ومرويات التراث، ما يتطلب تمثلها بصيّغ جديدة. وهذا ما سنطرحه في مجمل ما ننوي وضعه ككشوفات رآها الجميع في عمارة زها حديد.
ما نريد التوّصل إليه من إن المعمارية خضعت كفنانة إلى كل هذه المدارات التي شكّلت العمارة على مرّ الأزمنة، ما أكسبها خبرة، ليس في تحقيق عمارة موازية لما قبلها وما جاورها؛ وإنما لما تجده أكثر انفتاحاً على المستقبل. فما كان منها سوى النظر إلى المرونة في الإنشاء، سبيلاً لتحقيق رؤيتها. وقد كشف عن ذلك معظم المعماريين، وهم يراقبون عمارتها تنتشر في أرجاء العالم، مثيرة تساؤلات واعتراضات ووجهات نظر، خدمت المعمارية من باب الإصرار والتمسك بالموّقف المتمحوّر على الاستمرار في التجديد والابتكار.
(*) منقول من موقع القدس العربي