المغرب مملكة الهايكو: القصيدة بِكَامِل زِينتها… كَأنها سَتعِيش إلى الأبد

عبدالرحيم الخصّار 

مرةً قال ماتسو باشو (1644-1694) إن «من يكتب ثلاث قصائد هايكو يعتبر شاعراً، أمّا من يكتب عشراً فهو أستاذ». يأتي تصريح رائد الهايكو الياباني محاولاً التأكيد على صعوبة كتابة هذا الجنس الشعري المنحدر من فن آخر هو «الرينغا» الذي يشبه الفن الشعري «سْلام/ Slam». تكمن صعوبة الهايكو في الانحياز لكتابة مكثفة لا تختفي وراء الاستعارات والمجازات والبلاغات اللغوية. إنها قصيدة تتشكل بلاغتها من الداخل، من المعنى، لا من التشكيلات اللفظية. وهي بالمقابل كتابة مقيّدة بأنظمة إيقاعية محكمة، وحمولات دلالية ذات سياق مضبوط. إذ لا يمكن أن تحيد قصيدة الهايكو عن النظام الإيقاعي 5-7-5 الذي يمكن مقارنته بنظام النبر في اللغة العربية، كما لا يمكنها أن تتجاوز ثلاثة أسطر، يحمل كل سطر منها سؤالاً: أين؟ متى؟ ماذا؟ سطر يعبر بالضرورة عن المكان وآخر عن الزمان وثالث عن الحدث. ثم إن الموضوعة الموسمية عنصر حاسم في قصيدة الهايكو. إذ لا بدّ من أن يتضمن النص مفردة أو إشارة لغوية تحيل على الفصل أو الموسم، فضلاً عن خاصية أخرى هي «التبلّر»، أي تماسك النص بحيث لا يبدو أن فيه فراغاً أو بياضاً أو مفردة زائدة أو غريبة. ويتحقق التبلّر عبر مواءمة مفردات القصيدة للمعنى المعبّر عنه، أي تناغم الشكل مع المضمون إلى أبعد حدّ. فالأشجار عادةً لا تورق في القصائد الحزينة. تستمد الهايكو قوتها من بساطتها، فلا مجال للمفارقة والتشاكل والإبدالات الدلالية وتكسير أفق التوقّع وما إلى ذلك من التقنيات التي يعتمدها الشعراء عادةً لتحقيق عنصر الإدهاش لدى المتلقي. إننا أمام قصيدة حسيّة تعتمد على البصر واللمس والسمع والشم والذوق، لا على التخييل والاشتغالات الذهنية.
لكن ما نلمحه اليوم، ليس في العالم العربي فحسب، بل في مختلف جهات العالم، هو هذه العودة إلى كتابة الهايكو، بلغات أخرى غير اللغة اليابانية التي نشأ وترعرع فيها هذا الجنس الشعري اللافت. ويمكن الوقوف عند فئتين من أشكال هذا الامتداد الشعري: الفئة الأولى تحاول أن تبقى وفية لمختلف خصائص الهايكو، وبالتالي تبدو كتاباتها محاكاة لشكل أدبي ينتمي إلى تاريخ وجغرافيا بعيدين، وهي محاكاة صعبة، لكنّ عدداً من الشعراء قدموا فيها نصوصاً جيدة يبدو من قراءتها أنهم تمثّلوا بشكل كبير روح الهايكو. والفئة الثانية تؤمن بأن الهايكو يمكن أن تكون منطلقاً لكتابة نص شبيه مستوحى منها، لكن في سياق التجديد والتطوير. وهذا أيضاً خيار صعب، إذ كيف سيتم ضبط المسافة بين ما هو هايكو وما سواه؟ أي ما الذي سيبرر اختيار التسمية بغض الطرف عن الكثافة والقصر؟ هناك طبعاً فئة ثالثة تكتب نصاً قصيراً وتسميه هايكو من دون وعي بخصائص هذا الجنس الأدبي، وبقواعد كتابته، التي تسلتزم ضبطها واستيعابها، قبل التفكير في أي ثورة عليها.
في السنوات الأخيرة، عرف المغرب وفرة لافتة في عدد الشاعرات والشعراء الذين يكتبون الهايكو، أو ما يشبهها. كما بدأت تكثر اللقاءات المخصصة لها، بل إن «بيت الشعر» في المغرب أقام أخيراً مهرجاناً خاصاً بالهايكو قراءةً ونقداً وتنظيراً.
يعتبر نور الدين ضرار أحد الشعراء المغاربة المهتمين بشكل لافت بتجربة الهايكو. فقد أصدر منذ عقدين أنطولوجيا للهايكو، إضافة إلى عمل إبداعي من الجنس ذاته. وسيصدر له قريباً كتاب جديد هو عبارة عن مختارات من الهايكو المغربي. كما أنه منشغل باستمرار في إعداد ملفات مماثلة آخرها سيصدر قريباً، ويضم عشر قصائد هايكو لعشرة شعراء مغاربة. سألنا ضرار: هل يمكن فعلاً العودة إلى القرن السابع عشر في اليابان لإعادة إنتاج نصوص مماثلة؟ فكان جوابه بالنفي: «قطعاً لا، ما عدا أن تكون العملية برمّتها مجرد استنساخ من باب التقليد الأعمى. إن الهايكو في منشئه الياباني مع رائده باشو معروف بثبات بنيته الهندسية، غير أنه سيخضع في مراحل لاحقة لموجات من التطور عبر حساسيات شعرية متباينة وتصورات إبداعية متنوعة. وككل الفنون يبقى قابلاً للتهجير والتصدير انطلاقاً من أرخبيله الأصلي لجغرافيات أخرى متاخمة أو متباعدة، في شكل امتدادات متواصلة بلغات مرادفة وجماليات مغايرة. ومن هنا فالتجارب المغربية الواعية بآليات اشتغالها، مدعوة للاستجابة لنزوعات التأصيل والمغايرة بمقتضيات خصوصيتها ومقومات هويتها الثقافية، وذلك من أكبر رهانات تجربة الهايكو في المغرب». الأمر ذاته سيؤكده سامح درويش، الشاعر الذي أصبح علامة معروفة في تجربة الهايكو في المغرب كتابةً وتنظيراً وتنظيماً. رداً على السؤال السابق نفسه، يقول: «كتابة الهايكو اليوم لا تعني الرجوع إلى عهد باشو وإيسا وشيكي وغيرهم من الشعراء اليابابانيين الذي أسسوا لهذا النوع الشعري كل حسب مرحلته. فبالرغم من مقوماته الجمالية وتقنياته الفنية الثابتة المتعارف عليها عالمياً في كل اللغات والشعريات، فإن الهايكو يشهد تطوراً مستمراً داخل اليابان نفسه. إذ لم يعد مرتبطاً بالطبيعة وحدها، بل أصبح يعبّر عن مختلف المواقف الإنسانية والمجتمعية، كما أن هناك نقاشاً مستمراً حول حدود المجاز وحضور الكلمة الفصلية والقواعد الصوتية في الهايكو. مما يعني أننا اليوم نكتب هايكو مناسباً للحظة ويعبر عن قضاياها واختلاجاتها الإنسانية».
سألنا درويش عن كيفية تلقي تجربة «الهايكو العربي» داخل المغرب، فأكد أن هناك تفاعلاً إيجابياً من الأغلبية، لكنه استطرد: «غير أن هذا لا ينفي أنه ما زالت وستظل هناك جيوب لمقاومة هذه التجربة والتنقيص منها وأحياناً السخرية منها بصيغ واضحة حيناً، ومبطنة أحياناً. في نظري، ذلك نابع من عدم معرفة هذا اللون الشعري وعدم إدراك جمالياته حتى من لدن نخبة من المثقفين والشعراء، أو من دعاة الحفاظ على «الجنس الشعري» العربي، الذي لم تعد هناك معنى للمنافحة عنه بروح منغلقة».
يقول نور الدين ضرار عن هذه الوفرة في شعراء الهايكو التي عرفها المغرب خلال السنوات القليلة الماضية: «لا يمكننا أن ننفي في هذا الصدد وجود قلة من الشعراء المبدعين وسط هذا المَدٍّ الكاسح من الممارسين، وهو أمر طبيعي يتيح على الأقل تكريس النوعي من داخل الكمي». ما نقترحه في هذا الملف هو نماذج لقصائد قصيرة تحمل روح تجربة الهايكو اليابانية، ويبدو للقارئ أن الشعراء الذين كتبوها واعون بهذا الاختيار، وعلى دراية جليّة بتاريخ هذا النوع الشعري وتقنياته، وعلى فهم كبير بفلسفة الهايكو وروحه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *