فخ كورونا… لعبة الطعام واتهام الخفاش
صادق الطائي
في فضاء لعبة الاتهامات، التي يوجهها أعداء الصين لهذا البلد، الذي انطلقت منه جائحة كوفيد 19، ومن ضمن أهم الأسانيد التي اعتمدت في ترويج اتهامات، بعضها صحيح طبعا، بأن انتشار فيروس كورونا المستجد، الذي تسبب في الوباء، هو انتقال هذا الفيروس من الحاضن الحيواني، الذي هو الخفاش إلى البشر، البعض تساءل، عن أن مثل هذه الأسواق التي تباع فيها لحوم الحيوانات البرية، عمرها مئات السنين في الصين، وإن النظام الغذائي في هذا البلد مرّ عليه آلاف السنين، فلماذا تحصل انتقالات كثيرة للفيروسات من الحيوانات إلى البشر في هذا الزمن وبهذه الكثافة؟
فقد سبق وانتقلت فيروسات من الفصيلة نفسها (الفيروس التاجي) من الحيوانات نفسها للبشر، لذلك ولدت اتهامات جديدة مفادها أن مختبر السلاح البيولوجي في مدينة ووهان الصينية، قريب من سوق السمك والحيوانات البرية، وأن فيروسا انتقل من المختبر إلى سوق ووهان نتيجة خطأ بشري، لتتم بعد ذلك سلسلة الاتهامات الموجهة للحكومة الصينية، بالتكتم على الوباء ما أدى إلى تحوله إلى وباء عالمي.
للطعام تاريخ مواز لحضارة الإنسان، فأقدم رسوم عرفتها الحضارة البشرية هي رسوم الكهوف، التي تمثل صيد الحيوانات البرية التي يعتاش عليها الإنسان عندما كان يعيش في حقبة الجمع والالتقاط والصيد. وفي هذه الحقبة، أي حقبة الرجل الصياد، تخلق الكثير من الميثولوجيات المرتبطة بالسماح بأكل انواع معينة من الطعام من جهة، وتحريم أكل أنواع أخرى، ويرى عالم الأنثروبولوجيا هربرت سبنسر، أن الانسان البدائي اعتقد بأن أرواح الموتى تتشكل أو تتلبس بعض الحيوانات، التي كان يراها على مقربة من المسكن الذي ترقد فيه الجثة، في اللحظات الأولى للوفاة، أي أن روح المتوفى خرجت من جسده، ودخلت في جسد الحيوان القريب من مكان الوفاة، ومن ذلك ولدت نظرية سبنسر الأرواحية في تفسير الدين. كذلك الأمر يتكرر بالنسبة لعبادة بعض النباتات أو تقديسها، إذ يرى سبنسر أن البدائي يرى أن بعض حالات فقدان الوعي، أو الجنون المؤقت المصحوب بهلاوس، الذي يعقب تناول عصارة بعض النباتات مثل الصبار، مردها إلى الأرواح التي ظن البدائيون إنها سجينة هذه النباتات، وفي بعض الحالات يعد انتقال روح الموتى إلى النباتات التي تنمو أو تنبت على قبورهم، تفسيراً لتلبس روح الموتى للنباتات، ومن ذلك تأتي قدسية هذه النباتات.
وقد اعتمد سيغموند فرويد عالم التحليل النفسي، نظرية سبنسر عندما فسر في كتابه «الطوطم والتابو» ظاهرة عبادة الطواطم، وما يرافقها من تابوهات، فهو يرى أن الإنسان البدائي يعتقد أن أرواح أسلافه تلبست حيوانا أو نباتا أو حتى حجرا، وبالتقادم يصبح هذا الحيوان أو النبات محرما قتله أو أكله باعتباره الجد الأعلى للقبيلة، وقد تطورت فكرة الحلال والحرام في الأطعمة في الحضارات الأولى في بلاد النهرين ومصر، نتيجة تطور الأديان فيها، ودخل الكثير من مفاهيم هاتين الحضارتين إلى الدين اليهودي، عندما عاش اليهود في مصر والعراق القديم، وقد أضفى الكثير من الطقسية على أنوع الذبائح، وأنواع الحيوانات وطريقة تهيئتها في الدين اليهودي، الذي انتقل منه الكثير من التعاليم إلى الدين المسيحي ومن ثم إلى الدين الإسلامي ضمن منظومة ثقافية دينية متماثلة، تعرف بمنظومة الأديان الإبراهيمية.
ويبقى التعاطي مع الطعام المختلف نوعا من أنواع المواضيع التي تهتم بها العلوم الاجتماعية، وتحديدا الأنثروبولوجيا، فقد اعتبر علماء الأنثروبولوجيا موضوع الطعام فضاءً ثقافيا ودينيا وطقوسيا واجتماعيا مهما لفهم المجتمعات، وأن أول مؤشرات الباحثين حول هذا الامر هو العلاقة الوطيدة بين البيئة وطبيعة الطعام، من جهة، والتقاليد أو الأعراف الخاصة بالمواد الغذائية، وطريقة طبخها وتقديمها التي تتحول بمرور الزمن إلى جزء من ثقافة الشعوب.
فالإنسان اليوم قد لايستسيغ أكل حيوان، ربما كان متوفرا بكثرة في زمن ما، أو في مكان ما، حيث كان يمثل مصدرا غذائيا مهما لمن عاش من البشر في ذلك المجتمع، لكن نتيجة الوفرة والتنوع الغذائي، الذي حصلت عليه المجتمعات، بات الاختيار أسهل، وتراجع الإقبال على تناول حيوانات معينة، وبمرور الوقت أصبح مجرد ذكر حيوان ما مثار تقزز عند البعض. ولنأخذ مثالا من مجتمعاتنا العربية، ونذكر حشرة الجراد، فالإنسان البدوي تحديدا، ونتيجة الجدب والبيئة الفقيرة التي يعيش فيها البدوي، وجد في الجراد مادة غذائية لذيذة ومغذية، يحصل عليها في مواسم هجمات الجراد مجانا ومن دون تعب، حتى أصبح يتفنن في طبخ الجراد وأكله، وبما أن مواسم الجراد كانت تحدث بشكل شبه دوري، فكان أكل الجراد أمرا طبيعيا لدى مجتمعات الصحراء والمجتمعات المتاخمة لها، لكن مع توفر مصادر الغذاء وتنوعها، بات أكل الجراد بالنسبة لقطاعات واسعة من مجتمعات المشرق العربي أمرا مقززا، مع العلم أن البعض مازال يأكله ويستمتع بأكله.
لكن لموضوع الطعام جانب آخر في المجتمعات ذات الأغلبية التي تدين بالاديان الإبراهمية الثلاثة مثل دول الشرق الاوسط، وكما أشرنا، وهو تحريم أكل بعض الحيوانات، وارتباط الأمر بطريقة الذبح، التي يجب أن يتم بها تهيئة الحيوان للأكل، لكن حتى في هذا الامر يدلنا الحديث النبوي الشريف على التأثير الكبير للعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات بالنسبة لهذا الأمر، فحيوان الضب، وهو من الزواحف الصحراوية، ويشبه سحلية كبيرة، أو تمساحا صغيرا، ويعد مما يستطاب أكله في الصحراء العربية، نجد الإمام البخاري يروى في صحيحه عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد رضي الله عنهما: أنه دخل مع رسول الله (ص) بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله (ص) بيده، فقال لبعض النسوة أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقال خالد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر. وفي هذا الحديث دلالة واضحة على عدم تحريم أكل هذا الحيوان، لكن الرسول لم يستسغ أكله لانه لم يعتد ذلك.
وتبقى الاتهامات توجه، وربما بسبب ما وراءها من أجندات سياسية، لطبيعة الطعام الصيني، إذ يروج البعض للامر وكأن كل الصينيين البالغ عددهم قرابة مليار ونصف المليار إنسان لا يأكلون سوى الحيوانات البرية كالأفاعي والعقارب والحشرات والخفافيش، وهذا الأمر بالتأكيد غير صحيح، إذ لا يوجد في مدينة ووهان، وهي مدينة كبيرة، سوى سوق واحد لبيع هذه الأنواع من الحيوانات، بينما تشيع فيها الأسواق الحديثة ومراكز التسوق الصينية الممتلئة بأنواع الأغذية الحديثة المشابهة لما تجده في اي سوق في اي دولة من دول العالم.
كما أن الاتهام الموجه للخفاش بأنه كما شبهه البعض «خزان فيروسات»، وأن تناول حساء الخفاش هو الذي تسبب في هذه الكارثة العالمية، فهو أمر لم يثبت علميا بشكل قاطع حتى الان، وأن انتقال الفيروسات من حاضنتها الحيوانية إلى البشر تمت، وتتم، وستتم في المستقبل مع أنواع مختلفة من الحيوانات الأليفة أو البرية، نتيجة التماس والتواجد المستمر قرب هذه الحيوانات، وليس نتيجة أكل هذه الحيوانات، فقد انتقلت أوبئة كارثية للبشر في التاريخ الإنساني من الحيوانات، مثل انتقال جرثومة الطاعون من الجرذان، وانتقال فيروس الملاريا من البعوض، وفيروس الإيدز من القرود العليا، وفيروس أنفلونزا الطيور من أنواع الدواجن، وأنفلونزا الخنازير من الخنزير، وأنفلونزا الشرق الاوسط من البعير، وحتى من البقر، إذ انتقلت إلى البشر الجرثومة المسببة لمرض جنون البقر، لكن ولأن الامر يسوق ضمن لعبة أو فخ كورونا، فكان لا بد من التركيز على شيء غريب يختص به الصينيون تقريبا، وهو أكل الخفاش، حتى أن كان حساء الخفاش بريئا من الجائحة براءة الذئب من دم ابن يعقوب.