التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل”

د.حسين الهنداوي

مقدمة الطبعة الثانية من  كتاب :التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل

تأليف د. حسين الهنداوي

ليست هناك نهاية في دراسة هيغل. ففلسفته تبدو كعالم قائم بذاته يتغير مشهده تبعاً لموضع النظر. ومن هنا، فهي وتاريخها يباغتان الباحث المواكب بمفاجآت رائعة ونافعة. فهذا الفيلسوف، وبعد مرور نحو قرنين على رحيله، لا يزال يثير تفسيراتواستفهامات متضاربة وسجالات ومعارك فكرية وحتى ايديولوجية حيوية، هي جميعاً،بحد ذاتها، علائم مجد إضافي، كما يرىاستاذنا الراحل جاك دونت كبير المتخصصين في الدراسات الهيغلية عالميا طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

وكذلك الحال مع عبد الرحمن ابن خلدون في رأينا. فالدراسات الحديثة المكرسة له في شتّى الثقافات هو أيضاً، لم يعد من الممكن الآن إحصاؤها إلا بعد جهد جهيد رغم مرور ستة قرون على وفاته.

وهذا التناظر السعيد يعكس أساساً حقيقة الخصب اللامحدود في الأفكار والمنظورات المبتكرة التي حملتها آثار هذين المفكرين الكبيرين، والتي انطوت في الحالتين، على طاقة في التأثير والتغيير لم يتكهن كلاهما بها لنفسه. وهي حالة لم تتحقق في كل تاريخ الثقافة الإنسانية سوى لعدد ضئيل من العبقريات الاستثنائية والفلسفية غالباً.

لكن إمكانية المقارنة بين ابن خلدون وهيغل لا تنحصر في هذا المجال وحده بالطبع، بل تمتد الى تماثلهما على أصعدة أخرى عديدة وفي شكل يفرض نفسه كمثير للدهشة بحد ذاته. ولا يقتصر الأمر أيضاً على اشتغالهما بالفلسفة ولا على إيلائهما أهمية كبرى للتفكير بالتاريخ وبالدولة، إنما علاوة على كل ذلك، ثمة تقاطعات اخرى تمتد إلى العديد من مفاهيمهما الاساسية، النظرية والسياسية، كمفكّرَين نقديين وواقعيين. وكان ينبغي، ربما، أن تتوقف المقارنة عند هذا الحد، أي عند المظاهر الخارجية والسطحية وحسب، نظراً إلى المسافة الزمانية- المكانية الكبيرة التي تفصل بين انتماءيهما الحضاريين، أي بين الشرق الإسلامي في القرن الرابع عشر، والغرب المسيحي في القرن التاسع عشر.

بيد أن إغراء الذهاب بها أبعد يشتدّ عوداً، كلما غامرنا في الإيغال خطوة إضافية في الاستجابة له، رغم كل الحذر الذي صار رديفاً لهذا الإغراء. ففي الواقع، هناك تناظراتمثيرة بين «دروس» التاريخ الهيغليةو«العبر» الخلدونية، لا يقتصر على الإصرار على تحكيم العقل في قراءة صيرورة التاريخ الإنساني الفعلية، ولا على هاجس الشمولية والموضوعية النقدية في التعامل مع ظواهرها، ولا على المركزية الكبرى التي يمتلكها المفهوم الدوري في تفسير التاريخ كما في حياة الدولة لدى كل منهما على حد سواء، إنما نجد ذلك التنافح حاضراً، أو هكذا نزعم، حتى في هيكل المنهج والحركة المنطقية الداخلية التي تحكمه لديهما معا. فالانتقال من نقد المؤرخين السابقين إلى تحديد المفهوم الصحيح لـ «حقيقة التاريخ»، ومن هذا إلى تبيان دور العوامل الطبيعية (المناخ، التضاريس، القارات، الغذاء…) في لعب دور حاسم في صنع الحضارات، ومكانة الصراع الخلاق وديالكتيكه الخاص في كل ذلك، ومنها إلى كافة الموضوعات الأخرى، يوحي أن ثمة علاقة تواصل ما تقوم، ولو من بعيد، بين فلسفتي التاريخ الخلدونية والهيغلية، وتسمح بذاتها بنقل إمكانية المقارنة بينهما من مرحلتها كمجرد هاجس معرفي عابر إلى طرحها كضرورة علمية بكل معنى الكلمة، لاسيما وأنه قد أصبح من الثابت الآن، أن ابن خلدون هو مؤسس دراسة التاريخ كفرع من فروع الفلسفة، وبالتالي مؤسس فلسفة التاريخ قبل هيغل بأربعة قرون، كما أن نظريته في هذه الفلسفة، تظل المحاولة النظرية الأهم حتى العصر الحديث، أو حتى هيغل على الأقل.

نعرف بالطبع أن جعل «مقدمة» ابن خلدون منبعاً لأفكار مهمة وجوهرية في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة وحتى الاقتصاد السياسي أخذ في العقود الأخيرة صيغاً قطعية بشأن عدد مهم من الفلاسفة الغربيين الكبار ومن مختلف البلدان كالمفكر الايطالي الفلورنسي الشهير، ومؤسس المدرسة الواقعية في الإدارة السياسية والحكم،نيكولو مكيافيللي (1469-1527) الذي عاش إبان عصر النهضة واشتهر بكتابه “الأمير” المكتوب في 1513، أو الكاتب والمؤرخ الإيطالي غامباتستا ڤيكو (1668-1744) الذي عُدّ بفضل كتابه “مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم” الصادر في 1725، اول فيلسوف للتاريخ في العصر الحديث، او المفكر السياسي الفرنسي شارل مونتسكيو (1689-1755) الذي تنسب له نظرية فصل السلطات التي عبرت عنها مؤلفاته العديدة واشهرها روح القوانينالصادر لأول مرة في عام 1748، وحتى كارل ماركس الفيلسوف والاقتصادي الالماني ومؤسس النظرية المادية التاريخية والرائد في الحركة الاشتراكية والشيوعية في العالم ومؤلف العديد من المؤلفات والفكرية الشهيرة عالميا وأهمُها “البيان الشيوعي (1848)، و”رأس المال(1867).

إذ هناك بالفعل، ما يوحي بوجود تأثيرات لافكار ابن خلدون في جانب أو غيره في معظم المحاولات الكبرى اللاحقة عليه، التي اهتمت بقراءة موضوعات التاريخ او الدولةفلسفياً أو نظرياً، إلى درجة من الصعب أن نجد مفكراً حديثاً، في ميدان التاريخ وحتىالاجتماع والاقتصاد السياسي، لم يقارن بابن خلدون. لكن هذا النزوع، وهذه ظاهرة مثيرة، لم يشمل هيغل إلا بارتباك ووجل، كما لو أن المقارنة بينه وبين ابن خلدون تنطوي في نظرهم على مخاطرة مجهولة النتائج لأسباب كثيرة، ليس ضخامة وعمق ونفوذ العمل الفلسفي الهيغلي إلا بعضها، وكأن هوّة سحيقة تفصل بين نظريته والنظرية الخلدونية حول التاريخ وكذلك حول الدولة.

من هنا خصوصية دراستنا التفصيلية هذه الأولى من نوعها في كل اللغات حول هذا الموضوع المحدد، أي العلاقة بين هيغل وابن خلدون. بلا شك، ثمة استفهامات، نادرة على حد علمنا، طرحت هنا او هناك قبل طرحدراستنا هذه في 1987، عن احتمال تسلل فكرة خلدونية أو أخرى إلى فلسفة التاريخ او الدولة لدى هيغل. إلا أن الأمر يتوقف عند هذه الحدود، أي على مجرد استفهامات عابرة من جهة، وعلى أن العلاقة المفترضة، أو المحتملة، لا تتجاوز في أحسن الأحوال انعكاسات غير مباشرة وبعيدة جداً. وإذا كان هذا الافتراض يشمل شتّى المداخلات التي أشارت إلى هذا الموضوع، فذلك ربما بسبب سيادة الاعتقاد لدى كثيرين بأن هيغل لم يكن في وسعه الاطلاع، بشكل مباشر او غير مباشر، على «مقدمة» ابن خلدون، نظراً إلى أنها لم تظهر في أول ترجمة أوربية كاملة او وافية لها، إلا بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة هيغل. وقد عزز هذا التصور أن هذا الفيلسوف الألماني الذي لم يتردد في ذكر مصادره المهمة، الغربية منها والشرقية بما فيها الاسلامية، لا يذكر ابن خلدون على الاطلاق، لا في مؤلفاته التي نشرها بنفسه، ولا في المخطوطات التي وجدت بين آثاره، ولا في محاضراته البرلينية التي نشرت بعد رحيله.

وكذلك الحال بالنسبة إلى مراسلاته الضخمة. فبعد تنقيب، نزعم أنه دقيق في مجلداتها العديدة التي نشرت حديثاً، لم نعثر على أي إشارة توحي بأن هيغل عرف ابن خلدون أدنى معرفة. بل على العكس، وجدناه ينفي أي إمكانية لظهور مفكر تاريخي في الشرق الإسلامي، وكل الشرق، حيث يرى في «دروس حول فلسفة التاريخ»، أن الحضارات الشرقية، لاسيما الإسلامية منها، عجزت عن تحقيق أي تطور فعلي في ميدان علم التاريخ، إنما واصل المؤرخون فيها اجترار الأساليب نفسها والتقاليد العتيقة الموروثة منذ أقدم الأزمنة، وأظهروا غفلة شاملة عن ضرورة جعل الدولة وتطورها أساساً ومحوراً لمدوناتهم التاريخية.

هذا الاستنتاج يوحي بان هيغل اطلع على بعض كتابات المؤرخين المسلمين المترجمة الى بعض اللغات الاوربية ومنها تلك التي نشرها المستشرق بوكوك في مؤلف شهير بعنوان “مقتطفات من التاريخ العربي” صدر باللاتينية في أكسفورد في عام 1650 وتضمن نصوصأ كثيرة للبلاذري وأبي الفرج الاصفهاني والمسعودي والطبري وعشرات المؤرخين والكتاب المسلمين الآخرين فضلا عن فصول أخرى من “مختصر تاريخ البشر“ لابيالفداء، و“كتاب الجغرافيا للشريف الادريسي وغيرها. بيد أننا كلما تعمقنا أكثر في دراسة دواخل فلسفة التاريخ الهيغلية، أدهشتنا أكثر قوة الوشائج التي تؤلف بينها وبين فلسفة التاريخ الخلدونية. الى حد راودنا طواعية الرأي بأن ما في فلسفة هيغل حول التاريخ والدولة من آثار خلدونية، يتجاوز ما يناظرها لدى المفكرين الغربيين الآخرين، الذين سبقوه إلى الاهتمام بهذا المجال، لاسيما وأن بعضها يمس جوانب جوهرية جداً من مكوناتها، وبدرجة من قوة العلاقة تصعب معها تماماً إمكانية اعتبارها بنت صدفة مهما كانت عجيبة.

على هذا الأساس، إذن، وعارفون بداهةً بأن الفكر الخلدوني سبق نظيره الهيغلي بأكثر من أربعة قرون، يصبح من الطبيعي، والمشروع علمياً، البحث عن المصدر الواقعي لهذه التماثلات. وفي ضوء ذلك، يمكن اختبار احتمالية وجود تأثيرات فعلية، مباشرة أو غير مباشرة، مارستها الأفكار الخلدونية على نظيرتها الهيغلية في ميدان فلسفتي التاريخوالدولة.

هذا الجانب بالذات، هو ما تقدم عليه هذه الدراسة، لكن دون ابتسار أو تعسّفٍ في الواقع. فنحن نعرف وجود مصادر مشتركة بينهما، كبعض مؤلفات أرسطو مثلاً، كما أن هناك، بالطبع، فوارق جوهرية عديدة تفصلهما من الجهل إغفالها. ونضيف هنا، أن فلسفة التاريخ الهيغلية هي التي قادتنا إلى اكتشاف علاقة لها مع فلسفة التاريخ الخلدونية وليس العكس. بعبارة أخرى، إننا لم ننطلق من مفاهيم ابن خلدون لنعثر لها، بأي ثمن، وبقرار مسبق، على امتدادات عند المفكرين اللاحقين وهيغل منهم، إنما انطلقنا من المفاهيم التاريخية الهيغلية ذاتها لنبحث عن أصول لها في الفكر السابق عليها. وهو منهج يشرّعه الديالكتيك الهيغلي نفسه، عبر تأكيده الثابت على إقصاء الصدفة ومحاربة فرضية وجودها، الشيء الذي يعني ضمناً، أن كل ظاهرة، والفكرة الفلسفية هي ظاهرة، لا يمكن ان تولد دفعة واحدة حتى إذا بدت كذلك، إنما لابد ان تكون قد ظهرت في لحظة سابقة، في شكل جنين أو نطفة، ثم أخذت أشكالها المتطورة لاحقاً. فللفكرة الفلسفية، كل فكرة، تاريخ هي أيضاً، وعلى البحث الدقيق أن يكشف عن حقيقة هذا التاريخ لذاتها.

وسواء ثبتت استفادة الفكر التاريخي الهيغلي من نظيره الخلدوني أم لم تثبت، وسواء تأثر هيغل بابن خلدون أم لم يتأثر، فإن أصالة الفلسفة الهيغلية وعبقريتها في الميادين الأخرى، وأيضاً في ميدان فلسفة التاريخ والدولة، هما حقيقة لا يطالها الشك. من هنا يأتي حرصنا الشديد على إسناد كل الافتراضات التي ستلي إلى أكبر قدر من نصوصهما المباشرة، وإلى كل ما بلغناه من الدلائل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *