في ذكرى المفكر علي الشوك: “كنتُ أُريد أن أكتب اللامكتوب”!
د. حسين الهنداوي
د. حسين الهنداوي
كنت قد سمعت عنه الكثير من قبل. بيد ان فرصة تقديمه في محاضرة له بلندن دفعتني الى التعلم اكثر عنه ومنه. ثم جاءت فرصة اخرى ثمينة للنقاش المتقطع معه عندما كنا نلتقي عرضا في باص عمومي كان ينقلنا الى بيوتنا المتقاربة نسبيا في ضاحية هناك.. وكان التواضع والطيبة والاستماع صفاته المرافقة.
وعلي الشوك مفكر عراقي متخصص في علم الرياضيات واللغات القديمة وأحد ابرز الباحثين في قضايا التراث والموسيقى والأدب في العالم العربي، ومهتم بالرواية أيضاً! ولد في الكرخ من بغداد عام 1930 وتوفي مطلع عام 2019 في مستشفى بالعاصمة البريطانية عن عمر ناهز الـ90، خاتماً رحلته المعقدة والغنية مع “الكتابة والحياة”، وهو عنوان مذكراته الأخيرة التي صدرت في 2017.
بدأ علي الشوك حياته بدراسة الهندسة المعمارية في الجامعة الامريكية ببيروت عام 1947، الا انه قرر الانتقال إلى الرياضيات التي غيرت حياته حيث تخصص بها وصار مدرساً لها لمدة عشرين عاماً في بلاد ما بين النهرين.
تسببت افكاره اليسارية في اعتقاله بعد انقلاب 8 شباط 1963 الاسود، ثم بغربته خارج وطنه عام 1979، متجها نحو براغ عاصمة دولة التشيك، ومنها الى بودابست عاصمة المجر، حيث عمل وأنجز عدداً من الكتب التي ساعدته في الانتقال إلى لندن عام 1995، ليستمر في الكتابة من هناك.
بدأ الخزين التراثي الذي جمعه الكاتب علي الشوك يبرز على السطح في بداية خمسينات القرن الماضي . واشتدت رغبته في الكتابة عن افكاره مبكرا ، كما يشير هو إلى ذلك ، خاصة حينما تناول في كتاباته ذلك المؤلَف الشهير ” وعاظ السلاطين ” للعلامة الكبير الدكتور علي الوردي .
ولم يقتصر علي الشوك على نشر نتاجه الأدبي في مجلة “المثقف” التي صدرت بعد ثورة الرابع عشر من تموز بل كانت مساهماته الفكرية التراثية والأدبية تشغل حيزاً هاماً في صفحات كثيرة من الصحف والمجلات الفكرية الأخرى فضلا عن نشاطه المتميز في هيئة تحريرها.
مكانته؟
لم يكن الشوك يجامل احدا في الادب والفكر، وظلت افكاره عبر دراساته طافحة بما يثري الفكر وحتى الاثارة كما تجسدها بعض عناوين كتبه ومنها “الاطروحة الفنطازية” وهي درس في اللغة المغايرة وجمع الثقافات، و”الدادائية بين الامس واليوم”، و”الموسيقى الالكترونية”، و”كيمياء الكلمات”، و”اسرار الموسيقى”، و”الكتابة والحياة”…
وكذلك مؤلفاته الاخرى وهي “تأملات في الفيزياء الحديثة” و”الثورة العلمية الحديثة وما بعدها” و”الموسيقى بين الشرق والغرب” وكتاب “الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة”، وروايات “تمارا” و”الأوبرا والكلب”، و”مثلث متساوي الساقين” و”فتاة من طراز خاص”، “فرس البراري”، التي لا تزال تثير جدلا دون نسيان مقالاته الصحافية الكثيرة. طوال نحو نصف قرن.
افكاره الاساسية؟
– الفن والثقافة اهم واصدق من السياسة والايديوجيا في تغيير التاريخ والاوضاع والمثقف بالتالي اهم من السياسي والايديولوجي الدوغمائي بالضرورة. وان الكتابة بالنسبة له تمس كلّ شيء في الحياة.
– بناء ثقافة عراقية انسانية عالمية والتأكيد على البعد الانساني في الحضارة العراقية والعربية وجعلها مرتبطة بالإنسان ككل وبالإنسان العراقي على وجه الخصوص.
– التسامي على النزعات الشوفينية والطائفية والقطرية من خلال الطرح العلمي والجمالي منتميا لمشروع العمل من أجل العدالة الإنسانية ورفض الظلم والدكتاتورية,
– التكامل بين الحضارات الانسانية والانفتاح و“المهم أن لا ندخل في اي بحث و نحن نحمل معتقدات جاهزة قد تكون عقبة في طريقنا إللى بلوغ الحقيقة أو بعضها”..
– في ظل الدكتاتورية يمكن للمنفى ان يرفد الثقافة العراقية ويعزز مجالات الانتشار و التلاقح الحضاري
ان الموسيقى هي اللغة المشتركة الوحيدة المفهومة بين شعوب الأرض لديه. بيد أن عالَم علي الشوك لا يعرف الحدود. فالموسيقى التي تؤدي به إلى نسيان نفسَه، تنتقل بهذه النفس التي أصبحت نسياً منسيا، إلى عالَم التراث الذي ينفخ فيها من روحه، ليبعث فيها ليس حياة سومر وبابل وأكد فقط ، بل وكلَ أجواء الحياة التي زخر بها وادي الرافدين وما ضمته أرضه من ثقافات ومعارف .
وحول ذلك يقول لنا علي الشوك: ” لقد حاول أبي مراراً حرماني من الذهاب إلى المدرسة، وذلك بتأثير أو ضغط من أحد أصدقائه في الجامع، أولئك الذين كانوا يعتبرون أن المدرسة تعلم الكفر!
وحينما يقول علي الشوك بأن أول كتاب صدر لي بإسم ” الدادائية بين الأمس واليوم ” فإنه يستمر قائلاً : ” ربما هناك مَن لا يعرف ما هي الدادائية ، ولماذا بالتحديد بين الأمس واليوم “. وبريشة الفنان القادر على عكس الصورة بألوانها الطبيعية يرى ان الدادائية مذهب فني يدعو إلى الغاء السلطة وإلغاء الفن …. وقد جاءت كرد فعل من الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من مجازر وسفك للدماء”. أما لماذا بين الأمس واليوم فيؤكد: ” بحكم قراءتي التراثية العربية كنت أقف عند الكثير من الأشياء الغريبة في تراثنا العربي بما يرقى إلى السريالية والدادائية… فربطت بينها وبين ما ظَهَر لاحقاً. كما وجدتُ أن لبعض الشعراء العرب تصرفات لا تختلف عن تصرفات الدادائيين في القرن العشرين”.
وفي كتاب “كيمياء الكلمات”، يأبى علي الشوك إلا أن يرى الكلمةَ كخليط تتمازج فيه عدةُ عناصر لتأتي بذلك الناتج الذي جعلته الشعوب وسيلة لحوارها وقاعدة للتفاهم بينها، مثبتا أن الإستعارة من الغير هي ظاهرة علمية ثابتة لا يمكن ان ينكرها إلا مَن يجهل هذه الأصول. وهو نفس الجهل الذي وظفه البعض ليصب في مجرى العنصرية والإستعلاء والأفضلية. إنه “علم الكيمياء اللغوية” إن صح التعبير، ذلك الذي أراد له علي الشوك أن يشكل القاعدة العلمية لفهم التطور البشري المرتبط بتطور اللغات .
لا تفي هذه الكلمات بداهة للتعبير الوافي بحق عن تجربة وعطاء هذا المبدع والمفكر والإنسان الكبير الذي لا يمكن تحديد ملامح نهجه بعجالة بل بدراسة معمقة متأنية وطويلة لم ينلها في حياته الطويلة وقد امتدت لما يقارب التسعين عاما، والتي بقدر ما سعى لملئها بالفرح والعطاء الإبداعي الجميل طفحت بالكثير من الآلام والأحزان!
ولا بد ان اشير أخيرا الى ان علي الشوك هو اول من اكتشف مظفر النواب الذي سيؤكد لنا ان على الشوك كان قد اخذ قصيدته للريل وحمد ونشرها له في مجلة “المثقف” دون علمه لتغدو اشهر قصيدة في الشعر الشعبي العراقي المعاصر. فقد كان الشوك يعمل كمحرر رئيسي في مجلة (المثقف) التي كان يصدرها خريجو الجامعات الامريكية بعد ثورة 14 تموز برئاسة تحرير عالم الطب الكبير مهدي مرتضى، وكان الشوك يهتم بنشر كل ما هو جديد فيها.
عندما أصدر علي الشوك كتابه “الأُطروحة الفنطازيّة” العام 1970، كان الأمر أشبه بحدث ثقافي غريب: “كنتُ أُريد أن أكتب اللامكتوب” هكذا يخبرنا في مذكراته التي اختار لها اسم “الكتابة والحياة” الصادرة عن دار المدى. وهي أوراق يأخذنا صاحبها للغوص معه في مرحلة مهمة من تاريخنا السياسي والثقافي، بدأت في واحدة من أجمل مناطق بغداد “كرادة مريم” العام 1930، ومرت بمحطات كان فيها مصراً على أن يستبدل دراسة الهندسة المعمارية، بالرياضيات التي عشقها وغيّرت مصيره بالكامل ليتّجه إلى مهنة واحدة هي الكتابة: “في يوم من أيام 1947، اتخذتُ قراراً في أن أصبح كاتباً! أما الرياضيات التي كنتُ أدرسها، فستكون نزهتي في حياتي”.
وهكذا، فلقد دلت تجربته وعطائه على أن المنافي زاخرةً بالعديد من كبار العلماء والكتاب والباحثين والأدباء من أبناء وادي الرافدين الذين رحلوا عن وطنهم مكرهين في ازمنة البعث الغبراء.. او اي زمن مماثل.. كما تفضح كيف تعمد النظام السابق والبائد على تغييبهم، وطمس كل ما كتبوا، لوأد كل ما من شأنه ترك اثر طيب قد يصب في تحقيق اي رقي لمجتمع متعطش للرقي..