فلسطين

للكاتب: الطيب صالح طهوري | الجزائر

فلسطين

شجرات الورد الثلاث التي غرستها في حوش بيتي منذ سنوات، أسميت أولاها ف، ثانيتها أطلقت عليها اسم ل، أما ثالثتها فقد استحسنت لها اسم س..
شجرات الورد الثلاث كل واحدة منهن كانت سعيدة باسمها..حين أسقي الواحدة منهن وأقلب طينها تحرك أغصانها في اتجاهي.. تنحني لي وتلامس وجنتيَّ ..
شجرات الورد الثلاث التي كنت أحس أنني طينها كانت حين يأتي ربيعهن وتتوردن تستيقظن فجرا وتنتظرني.. ما إن أخرج إلى حوشهن واتوجه إليهن حتى أرى واحدة منهن تفاجئني بأن تضع أمامي إحدى ورداتها.. بالتبادل كانت الشجرات تفعل ذلك.. اليوم ف..غدا ل..بعد غد س..وهكذا دواليك..
لكنني، لن أخفي عليكمن أنتمن الذين واللواتي تقرأون وتقرأن قصتي الآن، واألماه! كثيرا ما كنت أراهن شجراتي الثلاث حزينات، موجهات أغصانهن المنحنيات جهة الشرق البعيد..
تقول لي ف صامتة: انظر إلي، فاؤك التي سميتني بها أغلقوا فاها منذ عقود..حاصروا فلاحيها..ضيقوا عليهم وجعلوهم فرارا متواصلا إلى الخيام في الشتات..
ل تقول: لامك التي كانت تفتح لي أملها في كل آخِر جعلوها وسطي.. صارت ألما لا ينتهي في تلك الشتات..
وأنت يا سيني، ماذا تقولين؟
تحرك أغصانها المنحنيات وتجيبني:
لقد نقلوني من س إلى سوف..أكاد أنسى سيني في سوفاهم..
أبكي.. وأسمع نحيبهن ريحا سافية تهب علي في تلك اللحظات..وتجف بئري..
***
في الطريق إلى ربيعي الآخير الذي سيأتي بعد عقود، ربما، نزلت في بئري وحفرت.. كانت البئر ضيقة علي في أسفلها.. لكنني واصلت حفري حتى نز مائي.. وفرحت.. سأسقيكن يا شجرات وردي.. سأسقيكن.. وخرجت..
كانت الشجرات عطشانات.. لكن مائي كان قليلا.. وكان لابد ان أكون عادلا في توزيعه عليهن..
جمعت ما أمكنني إخراجه من ماء.. وضعته في حوضي الإسمنتي ووزعته عليهن.. وكنت أعرف أنهن لن يرتوين..
في أسبوع الماضي، فعلت معهن نفس ما فعلته معهن في أحد الأسبوع الذي قبله.. وكان مائي قليلا، كالعادة.. ولا سحب في سمائي.. وأرضي حرارتها شديدة..
بدلو بئري رحت أوزع بالعدل مائي عليهن.. وكن فرحات بي حزينات عليهن وعليَّ.. ولأن وردهن لم يأت وقت ظهوره بعد فقد صرن كلما خرجت إلى حوشهن يرمين بأغصانهن أمام خطاي.. وبالتناوب أيضا.. ف ثم ل ثم س..
أمس رأيت جذوعهن تتحرك بعد أن لم تعد لهن أغصان..
أخي العربي لم ير ما رأيت..
هذه الأغصان التي جمعهتَها لا فائدة منها سوى تقليص مساحة حوشنا.. علينا برميها بعيدا أو حرقها..
إنها اغصان شجيراتي، لن أرميها ولن أحرقها أبدا ،أبدا، رددت عليه..
ضحك: أنت هكذا دائما.. مجنون ، والله..
لست مجنونا، يا أخي..
أبونا الذي مات منذ عقود طويلة زارني البارحة في منامي..
ضحك مرة أخرى: وماذا قال لك أبوك؟ ( أبوك قال ولم يقل أبونا)..
أغرس أغصان شجراتك الثلاث لتصير شجرات ورود أخرى، قال لي..
وماذا قلت له؟
قلت: لكن.. وسكتُّ..
لماذا سكت؟.. أكمل..
ما إن قلت لكن حتى أسكتني وتكلم :
سيأتي الماء.. سيأتي.. وستروي•••

▪اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل توفيق عبد العا لهن كلهن، يا ولدي..

أبوك قال لك هكذا؟ ..
نعم ..
ضحك للمرة الثالثة وغادرني ..
***
في صباح يومي هذا بدأت الغرس.. حين غرست سبعة أغصان، بالتمام والكمال، رأيت شجراتي الثلاث ف ول وس تحرك جذوعها وتحيط بي من كل الجهات.. رأيتها تتقدم نحوي وتحضنني.. رأيت دمي يغوص عميقا في ترابي.. ورأيتني أتحول إلى شجرة ورد رابعة.. حين التحمن بي وصرت وإياهن شجرة واحدة تقدمت الأغصان منا.. صارت أغصاننا.. رأينا ترابنا طينا.. ورأيننا نتورَّد في غير فصل ربيعنا..
وسمعنا تصفيق الأشجار التي حولنا، شجرة تلو الأخرى.. شجرة البرتقال.. شجرة التفاح.. شجرة الزيتون.. شجرة التين.. النخلة.. ثم.. شجرة العنب..
قالت ف: حين كنا بعيدات عنا كان فاهي جفافا وكان وردنا يسقط حزنا علينا..
ل قالت: لا، لا،لا.. لاءات ثلاثة كانت الأرض تسمعنا إياها والسماء تعيدها صدى يصم أغصاننا..
أكملت س: وكانت سوف أمامنا.. كلما اعتقدنا أننا نقترب ابتعدنا..
نظرت إليهن/ إلي.. كنا شجرة واحدة كثيرة الأغصان.. كنا شجرة متينة الجذر.. متينة الجذع.. كنا نغوص في طيننا.. وكانت بئرنا التي انطبقت جدرانها على بعضها نبع ماء غزير يسقينا..
ولم نبق ف، ل، س.. لم تعد شجرة سيننا س أو سوف.. صارت وفاء..
عدنا من شتاتنا..
صرنا كلنا فلسطين..
وربيعنا اقترب.. أصبحنا نراه على بعد بضع سنوات منا..

•••
▪اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل توفيق عبد العال

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *