(سيميائية اللّون ولون الذاكرة) في مجموعة (ذكـريات في تقاطـع الألوان) للشاعرة الفلسطينية: ناهد زعبي
قراءة: د.يوسف حنا | فلسطين
(سيميائية اللّون ولون الذاكرة)
في مجموعة (ذكـريات في تقاطـع الألوان)
د.يوسف حنا | فلسطين
ماذا بقي من ألوان طفولتنا؟
وماذا خزّنت ذاكرتنا من المشاعر والأحاسيس حيال قميص أحمر أو درّاجة زرقاء أو شقائق النعمان في الحقول أو سنابل القمح الذهبية اليانعة في المروج وترسّخت كلها منذ سنوات الطفولة؟
وهل رافقتنا تلك المشاعر والأحاسيس فترة طويلة من مسيرة حياتنا؟
وهل لها علاقة بذكريات حبّنا الأول وبسنوات دراستنا وفترة تحوّلنا إلى شباب بالغين؟
وكيف تندرج الألوان في مجال الذاكرة؟ وكيف تستطيع «إنعاش» هذه الذاكرة؟ وما هي حقيقة علاقتنا مع الألوان؟
– كلُّ هذه الأسئلة تزاحمت في مخيلتي وأنا أقرأ ذكريات الكاتبة السيدة “نهاد زعبي” في تقاطع ألوانها، في باكورة عملها الأدبي “ذكريات في تقاطع الألوان”
وجدتها تغرف من ذاكرتها ما تحتويه في جعبتها من الذكريات التي لعبت فيها الألوان دورًا خاصاً ثم تلقي على كل من هذه الذكريات ما تجده مناسبًا من أحداث ومفاهيم أبعد من مفهوم اللون البصري.
نعم هي «ألوان ذكرياتنا»، فإذا كنّا نعيش في عالم «ملوّن أكثر فأكثر» فإن اللون نفسه يبقى «مكانًا للذاكرة» و«مصدرًا للمتعة» و«دعوة للحلم».
هناك مقولة كان الشاعر الألماني الكبير “غوته” قد صاغها في دراسته حول الألوان بالقول:
-“هل يستمر ثوب أحمر بالبقاء أحمر اللون إذا لم يَنظر إليه أحد؟”.
ويجيب غوته بـ «كلا»،
وكذلك تجيب أيضاً الكاتبة ناهد زعبي. وهي تبرر ذلك بالعودة إلى الأصول الأولى لشغفها بالربط بين «التأمل العام»، الفلسفي، وبين حكايات وذكريات شخصية من الماضي. وما تركز عليه الكاتبة القول هو أن الألوان لا ترتبط في ذاكرتها بصورٍ فحسب ولكن بأفكار ومفاهيم وأنماط من السلوك والعلاقات لها مدلولاتها. ونرى أن هذا يتوافق مع مقولة غوته «إن الألوان هي قبل كل شيء مفاهيم وأفكار وتبديات فكرية. ثم هي كلمات، أي دلالات تختلف في الزمان والمكان وتأخذ غالبًا أبعادها ومسافاتها عن الواقع».
تقاطعت ألوانها مع تقاطع الأزمان والأسماء والأنواء والكلمات والخيبات والأحلام. وهذا ما أعطى للكتابة ملمحاً جمالياً ويُعدُّ عنصرا مهما من عناصر البناء الفني، بما يحمل من دلالات ذات علاقة مباشـرة بالرؤية الفنية، ففي معظم الأحيان لا يرد اللون فيما وُصف له، بل يكشـف عن إحساس الكاتب؛ فهو مبعث للحيوية والنشاط والراحة والاطمئنان، ورمز للمشاعر المختلفة من حزن وسرور.
اللون من أهم ظواهر الطبيعة وأجملها، ومن أهم العناصر التي تشكل الصورة الفنية، لما يشتمل عليه من الدلالات الفنية والنفسية والاجتماعية والرمزية. لذلك ينبغي تناول اللون عند الكاتبة نهاد من خلال ربطه بسياق النص فالسياق هو الذي يحدد وظيفته وفاعليته.
استثمرت الكاتبة الألوان لخلق التوازن والتناسب والوحدة والانسجام التي هي من أهم مباني علم الجمال. بحيث يعتقد بعض كبار النقاد أنه لابد من تدمير الواقع الخارجي لخلق واقعية جديدة، ولحصول هذا الغرض لابد من الالتجاء إلى الألوان؛ إذن التدقيق في الآثار الأدبية لتقاطع ألوان المؤلفة يرشدنا إلى أن اســتخدام اللون ليس صدفة، وليس لتنميق الكتابة وتجميلها فحســب، بل له ارتباط وثيق بجميع المستويات البنيوية والبلاغيةوالتعبيرية للنص الأدبي.
تستعين الكاتبة بالألوان لتعبر ُعن عمقها العاطفي وجوهرها الفکري، وکأنها رسّامة عارفة بخفايا الألوان ودلالاتها وعلاقاتها بالإنسان، بــل إن «الصور والألوان تنطلق من جوانية الكاتبة، وخبرتها البصرية، ووعيها التاريخي، وتجربتها بحيث تصبح الصورة ليست مجرد أداة للمعرفة فحسب، وإنما أداة للحرية أيضًا. كما أن بعض الألوان تكتســب خصوصية اجتماعية دينية في مرحلة زمنية معينة، أضف إلى ذلك أن بعض الألوان تتخذ طابعا إشــاريا في مرحلة ما، وتتخذ طابعًا رمزيًا في مرحلة أخرى، وربما تتخذ منحى العلامة، وإلخ، كل ذلك يستدعي من المرء الوقوف على دقائق الأمور التي تحيط باللون في سياق معين، وفي مرحلة زمنية معينة.
آثرت الكاتبة نهاد زعبي اللغة المباشرة والبسيطة، الخالية من التنميق، وابتعدت عن الديباجات اللغوية الثقيلة فسردت علينا وخاطبتنا بلغة تعبيرية فحرّرت ذكرياتها من صمتها لكلام تزينه ألوان الحياة، ألوان منبعثة من إنسانية الكاتبة التي استطاعت أن تجتذب القارئ المتلقي للتأمل والتفحص،
وتمكنت من أن تجسد تجربة خاصة بها لتنتج عملاً من واقعها وإحساسها، فعندما تتأمل قصصها، ستجد نفسك أمام عالم يحاكي الواقع بأعمال صادقة ومميزة تبهر المتتبع، وتجعله يغوص عميقا في عالمها الأصيل ويتماهى معها لتصبح حكايته وحكايتنا جميعاً.
لن أتطرق في هذه العجالة لسرد وتحليل كل قصة وقصة تضمنها هذا الكتاب، فقد فعل ذلك وبجدارة مُبهرة من سبقني إليه. لكن من أكثر المشاهد التي صدمتني وامتدت متغلغلةً في حواسي وذاكرتي هي يافا المغتَصبة في تقاطع ألوانها وعلى مفترق الجرح الفلسطيني مع الأمل بالعودة…
للراحلين من بلدها ألوان جميلة وقد بَهِتت وشَحِبت.. ثم ما عادت تقوى على الثبات فأرتحلت… في أيام المطر بكيت الجدران ألواناً فتدلت مثل الدمع وامتزجت بأقدام الراحلين وبخطاهم المتعثرة.. ما كانوا يقوون على الرحيل..
لولا رياح ساخنة.. صفراء.. عارية تحملُ بين أكفها القدر ..
حين خلت مدينتها الغافية قرب البحر من أهلها، قذفت بهم الرياح إلى رصيف الذكريات ومن وقْعِ أقدامهم علت ألوان الخوف والحزن إلى عينيها لتنزح مع آخر الراحلين.
أتمنى للكاتبة نهاد زعبي أن تكون هذه الباكورة الواعدة مقدمة للمزيد من الأعمال الأدبية الناجحة في المستقبل
مع جلّ تقديري واحترامي.
▪ اللوحة على الغلاف للفنان التشكيلي الفلسطيني: عبد عابدي