نص: ما لا يمكننا قوله
للشاعر العراقي: مهدي النفري (هولندا)
ما لا يمكننا قوله
(*)إلى معلمي وأخي: محمد عيد إبراهيم
أفتقدُ أشياء كثيرة وأكثرها طفولتي، أحن إليها وكأنها الجرح الذي لا شفاء له ولا دواء له، اعرف أنه أمر مضحك عند الآخرين عندما تتحدث عن اشتياقك إلى حدث لن يعود، ماذا تعني وقوفك لساعات طوال تُفكر في طفولتك؟ أليست مضيعة للوقت؟ سيقول الجميع تلك الجملة بينما أنت تقف عاريا تنتظر غيمة تحمل وزرها لتشاركك ثقل أسفارها،
أنه يوم غريب جدًا أن أكون وجهًا لوجه مع صورة لي لا أستطيع رؤية ملامحها بحكم الزمن الطويل الذي مر عليها، أفكر في لحظة وقوفي أمام الكاميرا، المصور، يا ترى متى ومن هو المصور؟ أحاول أن لا أدنّس هذا النهار الجميل بغبار سيأخذ مني وقتًا طويلاً لتنظيفه.
***
سأكون كاذبًا إذا لم أقل إن هناك أيامًا كثيرة أتساءل فيها عما إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح بالمجيء إلى هذا العالم أعني أن أطرق باب اللغة وحتى الدخول إلى معترك اللون، اعرف أن هذا الأمر محزن للغاية كلما حاولت أن افتح فمي لأخرج كلمات الجواب، أنه فرس برأس اعوج ودون ساقين
ولكن ما لم تكُن مجازفاً وتملك الشجاعة فلا تنتظر من الحظ أن يأتي لك عند سريرك، عليك أن تصرخ، تفتح فمك وان جعلك تفقد صوابك وتشارك العاصفة للقيام بالمجازفة لتغيير حياتك؟ قد لا تحصل في بادئ الأمر على أي شيء حتى أقرب المقربين سيتخلون عنك لكن ذاك الأمر لن يدوم ولن يكون طويلا فسيأتي اليوم الذي تشاركك الشمس بأشعتها في فجر يصاحبه ندى لذيذ يمشط أسنانك بضحكة ويهز نبض قلبك بفرح
أفتقد الذهاب إلى أي مكان أريده لكن ما العمل، الأسئلة هي بحر هائج يلوذ بروحه من زائرٍ أعمى.
***
أحاول جاهدًا أن أتجنب غيابي عني، أمر مقرف أنني أدفع بجسدي نحو روحي لمحاولة الصلح بينهما،
كأنني في هذا النهار الغائم والممطر رجل يقف على قبره، يتأمله جيدا، يعود بحياته ساعة بساعة ويوما بيوم لينتهي به المقام في هذه الحفرة التي تأخذ كل قياساتها من جسدك الضعيف والهش في ذاك اليوم،
لا يهم عليك أن تدافع جيدا عن عودتك إلى الحياة، فليس هناك سواك من يعرفك جيدا ومن ينتظر منك أن تقف لتقول لهذه العواصف إنك مازلت تتنفس ومازلت قادرا على حمل الحجر الثقيل دون طلب المساعدة من غيرك،
اعرف أن الحصاد في نهارٍ كهذا سيكون مؤلم جداً وسيأخذ كل ما تحاول إعادته من أحلام إلى حضنك ويقف كسياج عال لصدها،
ليست كل الطرق وعرة، هذا الأمر ليس بجديد لكن يحتاج إلى فعل وفاعل، يحتاج إلى جر كل ما يعيقك ويثقل عليك ودفعه بعيداً عنك، الأمر إذن هو أن تتحرك، تنهض من مكانك، تقول وبصوت عال لجسدك وروحك
هيا، انتهى وقت المزاح والضحك، حان وقت العودة إلى الفطرة.
***
أشرب كأسي دون أن أعرف أنه فارغ طوال الوقت
أجدد صناعة الحلم، أمسك بثوب ذاكرتي وأرتب سنوات اللهو، نعم هو قميص واحد ذاك العالق في الخزانة ولا يريد أن يخرج، لا أريد أن أرسم ذاك الوجع في حياة من لا يرغب بك، ولا أريد كتابة عن فكرة قد تبدو للآخرين طائشة عندما
يتعلق الأمر بسمكة تتوسد صنارة صياد جاء في نهار ليس نهاره، كل ما أوصله إلى هذه البقعة هو عطشه الذي أفقده صوابه حين استيقظ، فحزم حقيبته وجاء بكل أيامه وسنوات عمره الخوالي وبدأ يصطاد ذاكرته،
عليك أن تُصدق تلك اللعبة جيدا، تمسك بالصنارة وتقذفها إلى أبعد نقطة في البحر، يقولون أهل الخبرة أنه كلما
ابتعدت عنك كثيرا كلما كانت رؤيتك لظلك أقل
لكني أرى العكس، أرى ظلي يمتد معي حيث أكون، وإن غابت الشمس فأراه مستلقيًا في باب الدار أو عند النافذة ملتصقا هناك على الزجاج ويتأمل في،
الأمر حقًا غريب
عندما تقول للريح
أنا أيضًا ابن بار
وبيتي صديق للعواصف
ها أنت تصطاد السمك، سمكة صغيرة تحاول الإفلات من صنارتك لتعود إلى بيتها، حياتها، فدعها ياصديقي (يا أنا)
لتُكمل مستقبلها وأحلامها.
••• ••• •••
(*)اللوحة لذات الكاتب/ مهدي النفري)
▪ مهدي النفري شاعر، مترجم، وفنان تشكيلي عراقي مقيم في هولندا،
لديه العديد من الإصدارات الشِعرية والترجمات لمختارات من الشِعر الهولندي
نذكر منها:
- لُهاث قطار ينامُ فيهِ غرْقى/ دار ريادة للنشر والتوزبع| 2021
• مختارات من الشعر الهولندي ترجمة/ دار ريادة للنشر والتوزيع| 2021
• لعله يُشبه النمل/ دار الدراويش للنشر والترجمة| 2018
• عصفور النهر/ دار ريادة للنشر والتوزيع| 2014
• لا تأمن الدهشة وأنت ضرير| 2013
• ريح تتظاهر بالنوم| نصوص كُتبت بين عامي 2008 – 2010
• تلك أسئلةٌ دوّنتها الأحذيةُ والشوارعُ| 2007
▪ منحت له مؤسسة الهجرة الثقافية في هولندا جائزة الشِعر لعام 2010 في دورتها (18)
▪ مجموعة إصدارات الكاتب والمترجم على موقع أمازون ومكتبة الرشد ومكاتب أخرى