غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ| القسم الأول
من كتاب السيرة الذاتية للشاعر العراقي صلاح نيازي
وُلدتُ عام 1935 (على أفضل تقديرٍ) بمدينة الناصرية.
أولُ ما وَعَتْهُ ذاكرتي – وكان عمري حوالي سنتين – جانبَ السّلّمِ من بيتٍ كبيرٍ بالموصل، حيث كان والدي ضابطاً في الجيش.
غابتْ الذاكرة بعد ذلك، وعادتْ على مشهد والدي على فراشٍ أبيضَ في غرفةٍ بمفردهِ. ربّتَ على رأسي وقبّلني، ثم مشهد والدتي جالسةً في طارمةٍ مفتوحةٍ تبكي وحيدةً بنشيجٍ (كانتْ تلك مستشفى)، ثم تغيبُ الذاكرةُ نهائياً. هل ماتَ؟ أين دفنَ؟ كيف عدنا إلى الناصرية؟ أين أخواي؟ هل كان لديَّ أخَوان؟
سكنّا في البداية، وسط المدينة – على امتداد شارع البيطرة – في زقاقٍ غيرَ نافذٍ. البيتُ كبيرٌ، يضمُّ ثلاثَ عوائلَ أخرى. في وسط البيت سدرةٌ كبيرةٌ، لها ما للأولياء الصالحين من تبجيلٍ. أجملُ ما فيها خضرتُها وحنانُها وثمرُها، الذي له مفعولُ دواءٍ ناجعٍ. (هي المعنيّة بقصيدة «السدرة» التي كتبتها بمالقة في 24 – 5 ۔ ۱۹۸۷).
انتقلنا من هذا البيت، إلى بيتٍ مستقلٍّ في شارع الهوى، أو الهوا (سمي فيما بعد بشارع الحبوبي)، وهو شارعٌ عريضٌ تتوسطه حديقةٌ مسيّجةٌ على امتدادهِ، ممتلئةٌ بأوراد القطيفةِ والدفلى، ويبيض فيها الدجاجُ الآتي إليها من البيوتِ الفقيرة، والدخولُ إليها ممنوعٌ. هذا الشارعُ أصبحَ فيما بعد مسرحَ قصائدِ «نحن» الذي طُبع عام ۱۹۷۸.
إلى شرقِ الشّارعِ، وغير بعيدٍ عنه ماخورٌ، بيوتٌ رثّةٌ متناثرةٌ، وقابعةٌ على نفسها. لاتثيرُ فضولَ الأطفالِ، ولا تنافسُ أخلاقياتِ الكبار، الترفُ وحده، هو ما كان يثيرُ حسدَ المدينة. المومساتُ شبهُ محجوراتٍ، لا يقفن ببابٍ أو شباكٍ، أو ينادين وراء المارّة. إلى الشمال، مستشفى جديد، ومستشفى للعزل، نخافُ من هواء نوافذه البارد؛ فلا نقرب منه.
إلى يمين المستشفى، يقع «المغيسل»، حيث غسل الأموات قبل دفنهم، باب المغيسل مفتوح دائماً، ومظلم دائماً؛ لأنه بلا شبابيك. كنّا نخاف الدخول إليه، فالأشباح والجن بمدينة الناصرية، أُمّة معترف بها.
كانت مراهناتنا في اللعب على أغلفة علب السكائر. أغنانا مَنْ يمتلك عدداً منها أكثر. خلوّ الجيوب منها فقر مؤذٍ، يدلّ على سوء الحظّ وقلّة الدّهاء والذّكاء، ويورث الشماتة والإحن. كانت تلك بداية عملية الربح والخسارة.
تعارفنا – ولا أدري كيف تعارفنا – فيما بيننا على أن علبة سكائر PLAYER`S (ونسميها أبو لحية) هي أنفس العلب.
في وسط غلاف العلبة دائرة. في وسطها رجل أزرق العينين، ملتحٍ. تميل وضعيته إلى اليسار قليلاً. على رأسه «بيريه» سوداء كُتبتْ على حافتها الأمامية حروف يظهر منها (MARI فقط = MARINE) جندي بحري بريطاني. لحيته مقصوصة بعناية، ليس فيها حتى شعرة واحدة ناتئة. ينظر نظرة أفقية، توحي بالنظر إلى شيء بعيد، لكنها نظرة تخلو من أيِّ تأمّلٍ. خلفه بحرٌ أزرقُ متموجٌ تمخر فيه سفينتان متعددتا الأشرعة. تلك أوّل مرّة أرى فيها رجلاً ملتحياً ولا يعتمر عمامةً وعباءةً. كما لم أرَ من قبل بزّة عسكرية زرقاء. كذلك لم أرَ صورةَ بحرٍ، وسفينة بأكثر من صارية.
جذبتني صورة الغلاف لحدّ الحلم. لماذا أخذني البحر؟ لماذا طارت بي الأشرعة؟ هل للأغاني الشعبية، ولم أكن أعي مراميها، وما فيها من سفر وفراق وتلوع، علاقة بذاك التلوّع؟ هل سمعتُ شيئاً ۔ من دون فهم – عن مغامرات السندباد. لابدَّ من وجود أسباب أخرى لا أعرفها.
لماذا أخذني البحر؟ لماذا طارت بي الأشرعة؟ هل كانت تنعكس عليّ مرارة الزمان، وعقم المكان، حتى في تلك السن المقهورة؟ أو عن طريق انعكاسهما على الأهل؟ كبرت على اللعب في الشارع، وإن بقيت حافياً.
التنافس على ما نحفظ من شعر هذه المرة. سألني صديق أكبر مني سناً، وملابسه أكثر جدة ونعومة وطزاجة، إن كنتُ قرأتُ قصيدة عبد الوهاب البياتي، التي نشرها في إحدى المجلات بالقاهرة:
“غليونه القذر المدمّى والضباب
وكوّة الحان الصغير
ورفاقه المتآمرون يثرثرون
“البحر مقبرة الضمير”
ويقلّبون كؤوسهم ويقهقهون
“هذا العجوز ألا يكفُّ عن الشخير”…
بالتأكيد، ما من علاقة لهذا الغليون القذر، بتلك الصورة للجندي البحري؟ مع ذلك فقد أرتبطتا بذهني تماماً. ما أذكره أنني أعجبت بالصورة الشعرية، بمباشرتها، حيويتها، شخوصها وهم من لحمٍ ودمٍ، نراهم رأي العين. شخوصٌ لم يخرجوا من كتبٍ، بل من حياةٍ نعيشها.
بدا لي الشاعر يضرب بعيدا في الأفق، وجغرافية القصيدة على امتداد مستوى النظر، أي مواجهة الموضوع وجها لوجه، وهو غير ما ألفت مما حفظت من الشعر القديم؛ ذلك لأن تراكيب جمله الصعبة، وكلماتها الحوشية، تلهي كثيراً عن استملاح الصورة الشعرية، تماماً كما تشغل ترجمة حوار أجنبي على الشاشة عن التمعن باللقطات.
انتهت الصورة بـ «الشخير» فشعرت بأدميّة الجملة وبشريّتها. لم أقرأ من قبل هذه الكلمة في محفوظاتي، كما لم أقرأ كلمة: «غليون»، وإن كنت أراه يومياً بمئات الأفواه. الأبيات إلى ذلك، رغم سرديتها وروان موسيقاها رفعتني بطريقة ما، من الكتاب، ورمتني في أتّون الحياة، كما أعانيها وأعيشها. مع ذلك لم أحاول تقليد هذا النوع من الشعر؛ لأنني كنتُ هائماً هيام عشق بالشعر القديم وإيقاعاته الفخمة، وهو ما يناسب درس الإنشاء، والمحافل المأساوية بمدينة الناصرية.
مدينة الناصرية حين وعيتها محاصرة أولاً بالفرهود (هجوم الريفيين أيام القحط والجفاف على المدينة ونهب بيوتها بضراوةٍ وتوحش). ربما لهذا السبب لم أُعنَ بالفلاحين، ولا بأغانيهم المشبعة بالأنين والبطء والارتخاء. كانت محاصرةً ثانياً بطائرة إنكليزية، أخرجت المدينة من جلدها هلعاً. رجال بكامل ملابسهم ينبطحون على امتداد مجاري الأرصفة، حالما يسمعون صافرة الإنذار. امرأة عجوز تعيط، وتعيط ولا ترى الأمان إلا في قنّ الدجاج. قبل أن تفر المدينة برمتها إلى الأرياف كان الناس يذهبون أفواجاً لمشاهدة مخ جمجمة رجل من بيت «العضّاض»، مزقتها صلية من الجو، على أحد حيطان زقاقٍ ضيّقٍ. ثم بدأ التموين، وانقطع السكّر. ارتبكتْ المدينةُ أكثر وأصيبتْ بصداعٍ وذهولٍ. المدينة محاصرة ثالثاً، بالسّل والرّمد والبلهارسيا والملاريا.
مع ذلك لم تكن الناصرية عجوزاً راكدة، وإن بدت كذلك. الطبقة المتوسطة في بداية تكوينها. ومعها دخلت الثياب الفرنجية والأدوية المطموغة بكتابة إنكليزية، والعطور الأجنبية، وعطور ما بعد الحلاقة وصابون لوکس، وسكائر «أبو لحية»، كما دخل الكعب العالي، والتنورة، والبودرة، والديتول.
مدينة الناصرية، في الواقع، هي أربعُ مدنٍ في اليوم الواحد. تستيقظ صباحاً استيقاظَ مريضٍ، لا تقوى على غسل وجهها، وفي الظهيرة تبيَضّ فيها الشمس السمتية، فتنام وهي تنزُّ عرقاً، لدرجة الموت. وعند العصر يدبّ في أوصالها الغزل، فتندفع إلى النهر، الذي هو سلال من طيور ونهود، وفيه يمشط النخيل سعفه المضفور، وفي الليل تغني غناءً حزيناً، ممتلئاً بالقلوب الجريحة والتأوه والنجوم والقمر وخذلان الزمان، وأهم من كل ذلك الضياع. لماذا الضياع؟ يخاصرُ المدينةَ من جهةِ الغربِ، نهرُ الفراتِ، وهو أقوى إلهٍ بين آلهتنا. تشرب منه بكفيك كأنك تشرب رحمةً، كأنك تسمعه يقول هنيئاً. وهو إلى ذلك صافٍ ترى أسماكه، أسراباً أسراباً، لا تشبع من الحركة واللعب.
إلى شمال الناصرية تقع أطلال «أور» السومرية، وإلى جنوبها يسكن الصابئة المندائيون الذين يعرفون بمهاراتهم بالأشغال الفضية، ولغتهم السرية، وملابسهم البيضاء والسحر. لكن المدينة منقطعة عن سومريتها ولا تفتخر بها؛ ربما لأنها لا تعرفها.
يسكن اليهود في وسط المدينة، في أغلى البيوت وأعلاها، يلبسون أرقى الثياب، ولهم لهجة خاصة، ووجوههم بيضاء.
أما المسيحيون فعددهم قليلٌ لا يتجاوز خمسَ عوائلٍ، إحداها تمتلك صيدلية يوسف (عن سمير بن يوسف الصيدلي كتبت قصيدة “وهم الأسماء” بلندن في 12/3/1991) ولها واجهة زجاجية، وربما كانت هي البناية الوحيدة بواجهة زجاجية كبيرة.
الغرباء الوحيدون في المدينة هم الجنود. هؤلاء يأتون من مختلف المدن. تقع ثكنتهم العسكرية على الجانب الغربي من النهر، وهي المبنى الوحيد هناك.
الجنود هؤلاء فئة خاصة جداً، ولهم امتیازات حكومية على السكان. فمن ناحية، إنهم فاشلون في الدراسة عموماً أو فقراء، لم يكملوا الدراسة ومن ناحية ثانية، يأكلون ويشربون وينامون مجاناً، وهم إلى ذلك بعيدون عن أهليهم وعن الرقابة الاجتماعية التي نشأوا عليها، فما من رادعٍ إن عاثوا فساداً بمدينة أخرى، وعاثوا فساداً .
يندفع الجنود إلى المدينة يوم الخميس بعد الظهر، ويوم الجمعة وكأنهم خرجوا من محبس مذل ومهين.
يحتلون المقاهي والشوارع أفواجاً أفواجاً، ويتجمهرون في رؤوس الشوارع بعيون صيادين. ولكونهم غرباء، ومنعزلين عن الحياة العادية تقريباً، فإنهم لا يراعون الأعراف وما من أحد بقادرٍ على الاعتراض، فالجندي يدرّب وراء جدران تلك الثكنة على نصرة أخيه الجندي ظالماً أو مظلوماً. يتلصصون على الفتيات الشابات، ويطاردون الصبيان خاصة بإلحاح كلابٍ (ذكرتُ إحدى عمليات الاغتصاب في قصيدة الجندي وبنات نعش» في 2/1/98).
على الرغم من أن المدينة كانت مضاءة، إلا أن قلة من البيوت فيها تيار كهربائي. الراديوات موجودة في المقاهي الكبيرة فقط، المدينة تجتر أيامها وشؤونها وأحاديثها مرة بعد مرة بتنعم. النكتة نفسها تعاد عشرات المرات ونضحك لها عشرات المرات، الحدث تعاد وقائعه نفسها عشرات المرات، وفي كل مرة نأسى.
أصبح ذهاب الطلاب إلى المدارس من شتى الأزقة، أنهاراً صغيرة لاغطة لم تعهدها المدينة من قبل.
رغم افتتاح أول مكتبة مقابل صيدلة يوسف، ورغم الإقبال العجيب على التهام الكتب، إلا أن حركة أدبية لم تظهر بعد. اقتصر النثر على كتابة المقالة فقط. كان في المدينة ثلاثة شعراء. على رأسهم رشيد مجيد. وهو شخصية غريبة.
مصور فوتغرافي. لم يكمل دراسته. يطالع بقلة ويتمثل ما يقرأ. لا يعرف الأوزان الشعرية تقطيعاً، ولكنه لا يخطئ في الوزن. أميلُ إلى الطول، ممتلئ الجسم، سريع المشي، وجهه مُشرّب بالحمرة ويداه وشفتاه ترتجفان انفعالاً. كان شيوعياً. وكنّا نهابه. شاعرٌ موهوبٌ فعلاً، في بيئة غير موهوبة. قصائده الأولى مصنوعة من نيران واقتحام وكلمات شرر. مع ذلك لم يكن يحسن الكلام عن الشعر. إنما يقتصر قوله على: قصيدة جيدة أو قصيدة غير جيدة.
كان لهذين الحكمين وقع مدير مدرسة وهو يعلن النتائج: ناجح، راسب.
أحبَّ يهودية، فكاد يهلك احتقاناً وتزداد حبسة لسانه. كتب عنها ملحمة شعرية وهو في السجن، وكان يرسلها أجزاءً إلى صديقه. وحين هُجّرت إلى أسرائيل، ظل يعيدُ طباعة صورتها الفوتغرافية، يزيدها رتوشاً، حتى شككنا أنه يربّيها وأنها تناغيه. ثمّة شاعر كردي غادر إلى بغداد اسمه عبد القادر رشيد الناصري. ما تزال أنباؤه طرية في المجالس الأدبية، أصبح مشهوراً ببغداد، وكان ينشر في مجلة «الرسالة» القاهرية.
لا يفوتني أن أذكر شاعراً رقيقاً لدرجة الذوبان وإنسانيا لدرجة نكران ذاته. اسمه فاضل السيد مهدي. لم يكمل الدراسة، وكان بقّالاً؛ لأن أهله موسرون ولم يجد وظيفة. شيوعي متكتمٌ لا يبشّر بفكرهِ.
انفعاله الشديد يفسد عليه التحكم ببناء القصيدة العمودية، يقرأها علينا والدموع تملأُ عينيه، ولكن ما من دموع في القصيدة. الغريب أنه كان يكتب قصيدة النثر، ببراعة صغيرة محبّبة. هي أقرب إلى اللّقطة منها إلى القصيدة، وكان ينشر تباعاً. لم يكن مثقفاً؛ لذا بقيتْ فطرتُهُ صافيةً، لم تخدشْهَا الكتبُ.
هؤلاء الثلاثة أكبر منّا سناً، أيْ أكبرُ من جيلنا.
معي في الصف السادس الابتدائي طالب اسمه محمد فائز (محمد الفائز فيما بعد) قيل إن والده نجديّ غني، وإن أمه ماتت أو طلقت، وأن زوجة أبيه تهمله وتهمل تنظيف ملابسه. كان يُتأتئ. لا أثر للتأتأة حين يغني، أو حين يرتل القرآن. لم يتوفق في الدراسة لأسباب لا علاقة لها بالذكاء. ترك المدرسة وعَبَدَ جبران خليل جبران ونيتشه.
لم ألتقِ به لمدة طويلة إلى حد ما، إلا حينما نشر أول قصيدة له وكانت على بحر «السريع». اكتشفتُ خطأين في الوزن، تقطيعاً وإيقاعاً. فقد تعلمتُ أوزانَ الشّعرِ – ربّما كلّها – في الصفِ الأوّل المتوسط.
أراني محمد الفائز في تلك الفترة المبكرة، رسالة من أحد المحررين لإحدى المجلات ببغداد. يقول له المحرر فيها إنه سينشر الحِكَمَ التي أرسلها لو أرفقها بأسماء قائليها من الفلاسفة والحكماء. كتب الفائز له رسالة يختمها بالقول «هذه للعبد الفقير كاتب السطور، ونُشِرتْ فيما بعد. كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها «العبد الفقير» فكبر في عيني.
أصبح محمد الفائز فيما بعد وكيل وزارةٍ بالكويت، ومن أهم شعراء البلد.
يجدر بي أن أذكر الشاعر العماري حامد العزي الذي درّسنا اللّغة العربيّة. شديدُ الحيويةِ والتّواضع، لا يقارع أو يكابر بمعلوماتٍ. عيناه صغيرتان نافذتان وفيهما حَوَلٌ قليلٌ. يصفُ أنفَهُ بأنّهُ روماني ويضحك.
العزي يتدفق شعراً. ينظم القصيدة بسرعة متأنية، وبثملٍ. يرنّم الشعرَ، بتلذذٍ وصوتٍ عميقٍ موسيقي. (تأثرتُ بطريقةِ إلقائهِ ومازلتُ).
أوصلنا العزي إلى الشعر الرومانسي، وهو الذي عرّفنا بإلياس أبي شبكة، وعمر أبي ريشة، كان يقرأ علينا قصائد مترجمة عن الفارسية، ويدعي أنها ترجمته. نحترمه بالتأكيد لكبر سنه، ولكنه لم يعاملنا إلا نداً لندٍ. من تواضعه أنه يرينا القصيدة قبل إلقائها أو نشرها، ويطلب منّي بودٍّ أن أنبهه إن كان ثمّة خلل وزني فيها، وما من خللٍ؛ لأنّه يزن الشعر عن طريق الأذن. باختصار، لقد غرس العزي بمدينة الناصرية أينع الألفاظ وأرق الموسيقى. كانت موضوعاتنا قبل مجيئه ممتلئة بالبَشَر، وداعاً ولقاءً، قرعاً سياسيّاً، ورثاءً وهجاءً، ندورُ عليها بلا مللٍ، نجّترها. لكن بمجيء العزي. تغيرت الصورة فعلاً، أضاف إلى أدواتنا الشعرية ريشة رسام، ورشّ أمام أعيننا الألوان في الأفق، والألق والنور. حرك الريح بالأنسام والأشذاء وكانت قبل ذلك ساخنة بالآه والآه، نحمّلها السلام إلى عشيقاتٍ مجهولاتٍ. أصبحتْ الصورةُ الشعريّة أكثر طراوة بالأنداء. وبين عشية وضحاها، قلّدناهُ، فارتفعتْ خيالاتُنا الشعريّة إلى أعلى، وكأنْ بأجنحة مسحورة.
كان حامد العزي صديقاً أستاذاً، وصديقاً أباً، لا يخجل مني حافياً وبالدشداشة وأنا أسير معه على النهر. وهو الذي نصح أخي الكبير بأن يسمعني الموسيقى الغربية الكلاسيكية. تأتي من إذاعة بغداد، مشوشة، وحين تخرج من مذياعنا القديم تصبح مجرد مطارقَ، تعلو وتخفت، تغيب وتزحف من جديد.
لم يكن ذلك كل النسيج الثقافي لمدينة الناصرية في أوائل الأربعينات. على أية حال، في بيتنا في شارع الهوى، حديقة مستطيلة فيها شجرة راسقي. ورودها الصغيرة البيضاء كاللؤلؤ الرطب. لم أشم عطراً كعطرها. تملأ حتى أقصى زوايا البيت. لا أدري لماذا أستحنُّ كلما ذكرتها وأشعر بذنب. ذنب مَنْ جفا حبيبته وندم بعد فوات الأوان. لماذا أشعر بذنب يا ربّ؟! لم أفارقها ولكني أُقتلعتُ عنها مجبراً. لو كانتْ تقرأ وتكتب، لبعثتُ لها رسائل الآن. بالتأكيد إنها أنثى مسحورة. أحسّها للآن تعرش فوق صدري. فراقها عليّ أمضُّ فراقٍ۔ كان يجب أن تُسَجّل كأحد أفراد العائلة في دائرة النفوس.
كنّا نسكن في البيت – غير شجرة الراسقي، أربعة، أمي الأرملة، وجميل الأخ الأكبر، وجليل الأخ الأوسط، وصلاح أي أنا. كلنا يتامى بكل ما يعنيه اليتم. كنّا شبه أغنياء. والدي ضابط في الجيش ومنحدر من عائلة إقطاعية تمتلك أراضي شاسعة. وها نحن الآن فقراء نعيش على بيع أثاث قديم. البيت ملكنا. جعنا ولم نسأل أحداً. بنظافة الهندام، عوضتنا الوالدة عن رثاثة الملابس. في البيت دجاجات، عشت معهن قبل الذهاب إلى المدرسة، كلدات. تعرفت عن كثب على ألوانهن بالتفصيل، وعلى أخلاقهن، كيف تنمو الفرخة لتصبح أنثى بيوضاً، وكيف يحمرّ عرف الذكر الصغير يوماً بعد يومٍ. البيض يفقس أمام عيني، ثم تدرج معهم الأم تعلمهم النقر والنبش، وتدافع عنهم باستماتة، وقوقأة صارخة.
في البيت كذلك قطة. قفزت مرة، فقلبت الفانوس النفطي، فكاد البيت يحترق. (منذ ذلك اليوم وأنا أحذر من القطط).
مع القطة لدينا كلبة سوداء ودود، ألفناها حتى صارت فرداً منا. أعطتني أنا بالذات، الحماية والأمان. من سوء الطالع أنها تكره المسبحات إذا كانت سوداء. فما أن يمرّ رجل وبيده مسبحة سوداء حتى تنطلق. تقطعها وهي تنبح، وكأنها تشتم صاحبها. اشتكى بعض رجال الدين منها، وحين لم تنفع الشكوى، تفادوا المرور بشارعنا.
بعد حوالي ثلاث سنينٍ، أصيبتْ بداء الكّلّب، هكذا قيل.
تبرّع أحد الجيران بقتلها. كانت فرصة أخرى له؛ لأن يستعرض عضلاته أمام فتيات الحارة. ضربها على رأسها بلوح حديدي ثقيل. نطّتْ ولم تصدق ما حدث. المفاجأة أكبر من الألم. دارت على نفسها عدّة مرات. حاولتْ أن تعضّ ذنبها. تصورتْ ذنبها هو المسؤول. تدور وذنبها يدور معها. عاطت ثانية، ثم تواصل عياطها. ضربها ثانية، فاندلق دمها من فمها، ووقعتْ على الأرض. حاولتْ أن تتنفس. شرقت، رفست، شهقت، ارتجفت أطرافها وبقيت عيناها نصف مفتوحتين، كأنها تتوسل، كأنها تتوسل، كأنها تستنجد، جُرّت من ذنبها بعيداً. يومها ثُلِمتْ الحياة. بقيتْ مكسورةً لحد الآن.
من باب الصدف، أن سكرتيرتي الإنكليزية، أهدتْ لي كلبة سوداء من نوع كلبتي الأولى، عاشت معنا خمسة عشر عاماً. بعد ذلك أصيبتْ بالعمى والصمم والشلل. كان لابدّ مما ليس منه بد. حملتها إلى الطبيب، فاختار لها الموت شفقة ورحمة. تورمت حنجرتي، وتنمل رأسي. شرح الطبيب لي مراسم الموت ومساحة القبر، ونوع الآجر وشاهدة القبر. (رثيتها في قصيدة «في رثاء لولو عام ۱۹۹۸»).
لم أر ببيتنا بالناصرية يوماً، جريدة أو مجلة أو كتاباً حتى ولا القرآن الذي لم يدخل في أحاديث كبارنا كاستشهاد. مع ذلك كان خوفنا من الله عظيماً، ونخيف به الآخرين. نار الله بيننا أشهر من جنته.
تشكلت معلوماتي مما كنت أسمعه من خرافات، ومن أغانٍ وما أكثر المغنين بمدينة الناصرية!، ومن تهاويدٍ ونواح. وفي المدرسة حفظنا الأناشيد والقصائد وبعض التمثيليات عن الحيوانات. في الصف السادس كنت أحفظ مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي بكاملها؛ لأني اشتركت في أحد الأدوار.
شعرنا ونحن ننتقل إلى المدرسة المتوسطة، بأنّ مرحلة جديدة من النضج ابتدأتْ، أو أن نهاية الطفولة خُتمتْ. بناطيلنا الآن طويلة. ما من اصطفاف يومي وأناشيد، وما من تفتيش على أظافر اليد وما من قصاص.
عن طريق درس الإنشاء ظهرت الحاجة إلى قراءة النثر.
لا أدري من أين جاءتني الفكرة الغريبة، بأن الكلمات الصعبة العويصة هي التي تزيد الإنسان رفعة ومقاماً. (مازلت أحمل الفكرة نفسها، وهذا سبب تلذذي بقراءة القاموس وكأنه رواية من أعلى المستويات).
على هذا الأساس انكببتُ ولمدة ثلاثة أشهر على قراءة «البيان والتبيين» للجاحظ، ولم أقرأ منه، إلا ستين صفحة. تجربة مريرة. كلما ذكرتُها ضاق نفسي.
مع ذلك، فربما عرفتُ عن هذا الطريق، أن إتقان الأدب يحتاج إلى عناءٍ وجَلَدٍ ومثابرةٍ.
الكتابان اللذان حبّبا لي القراءة، وأثرا فيّ تأثيراً لم ينقطع حتى الآن، هما: أولاً: كتاب لا أذكر عنوانه ولا اسم مؤلفه. يدور الكتاب حول مجرمين ولصوص واقعيين، أي محضر شرطة. كتبه معاون شرطة كمذكرات. الأحداث تتطور بصورة فعلية بواسطة الأسئلة والأجوبة.
ليس في الكتاب حشو كما أذكر، وليس فيه انتقال من حاضرٍ إلى ماضٍ أو تطلّع إلى مستقبلٍ. لا أهمية للزمن. من تناقضات إفادات المتهمين، تظهر الجريمة، كنتُ فرحاً بهذا الكتاب، أعدتُ قراءته عدّة مرات، وفي كل مرة تغمرني نشوة جديدة. تعلمت منه أن للأدب غاية ملموسة. تعلمت منه كذلك نشوة الانتصار على الشر. (مازلتُ لحد الآن أراقب بشغفٍ وخوفٍ لذيذٍ، البرامج التلفزيونية التي تصف آثار الجريمة وتطلب من المشاهدين المساعدة في كشف الجاني).
هكذا تغلبتُ لديّ فكرة تفضيل الحقائق الواقعية ذات النتائج الملموسة على الحدوس الغيبية. ربما كانت تلك البذرة الأولى التي تطور عنها ولعي بالاهتمام في وضع الإنسان في المجتمع، وعدم اهتمامي بوضعه في الوجود.
الكتاب الآخر الذي قرأتُهُ بلهاثٍ حقيقي، وعلى ضوء القمر حرفياً، هو «سيرانو دي برجاك»، ترجمة المنفلوطي. رشّ هذا الكتاب في جسدي كله لذة حزينة، وخدراً، لم أجد لهما مثيلاً فيما بعد، إلا حين تعرفت على دستويفسكي. غرس هذا الكتاب، منذ ذلك التاريخ المبكر، فكرة الحب المقدس، الحب الذي هو أقوى من أية رابطة أخرى. ربما بسبب علاقتي بأمي الأرملة من ناحية، وبسبب هذا الكتاب، فإني ما كتبتُ غزلاً، إلا وأحطت المرأة بهالة من القدسية، والتعبد والأمومة.
في عطلة الصف السادس الابتدائي، انكببتُ على حفظ الشعر القديم بصورة ببغاوية وعشوائية تأثراً بالشيخ حسين. حاولتُ أن أكونه. الشيخ حسين شبه أعمى. يأتي إلى الناصرية في أيام عاشوراء لإلقاء الخطب والمراثي الحسينية. كان هذا الرجل يحفظ دواوين برمتها، حتى بات انطباعنا عنه، أنه ما من قصيدة إلا ويحفظها. كنت أحد المداومين على حضور المآتم الحسينية في أيام عاشوراء. لم أكن متديناً، كما لم يكن مقتل الحسين وعائلته، والملابسات السياسية، من همومنا نحن الأطفال. شعرنا أنها خاصة بالكبار وهي مسؤوليتهم. كنتُ فقط مندهشاً باللغة الفصحى وإيقاعاتها، ومنسحراً بالحنجرة البشرية وهي تئن بالقصائد الرثائية الشجية. طريقة التطويح، لا المعاني هي التي تخمش سويداء القلب. الصوت لا الكلمات. مع ذلك، قد أجوّز لنفسي القول: إن شعري اصطبغ بصورة عفوية بالآلام الجسدية الشيعية التي لم أعِ مصدرها إلا قبل سنوات.
على أية حال، في هذه الفترة بدأتُ أكتب الشعر بعسرٍ شديدٍ، الكتابة وحدها تدلّك على فقرك الأدبي، ونقاط ضعفك. القصيدة لا تزيد – مهما حاولت – عن سبعة أبيات، تنضب أفكاري تماماً، وأصفرُّ. ما العمل؟
قلتُ لأنظر في قصائد الجواهري، كيف يبدأها؟ كيف يطورها؟ كيف يختمها؟ قرأتُ ديوانه على هذا الضوء حبةً حبةً، لأتعرف على تقنياته. (ما يسحرني بالشاعر حتى الآن تقنيته). بهذه الوسيلة طالت قصائدي إلى العشرين بيتاً، وفي مرة بلغت إحدى القصائد سبعة وثلاثين بيتاً، فأصابني الزهو، وحين نُشرتْ في نشرة مدرسية وعلقت على الحائط، نظرت إليها وأصابني الخوف. ابتعدت عنها متنصلاً عن مسؤوليتها وهو شعور يلازمني حتى الآن كلما نشرت شيئاً، نثراً أو شعراً.
قبل أن انتقل إلى مرحلة أخرى، قد يكون من المفيد ذكر بعض الحقائق:
1 – أصبتُ في طفولتي بالتراخوما لأشهر، ولم أراجع طبيباً، وبالملاريا والبلهارسيا والتيفوئيد، بفضل جهل والدتي. تركت لعناية الله والموت. مغمى عليّ، ولا أصحو إلا على بكاء والدتي.كانت تردد على مسمعي الذابل: سأشتري لك خروفاً أبيض إذا شفيتَ أبيض أبيض وتبكي. بالصدفة المحض، سكن طبيبٌ شابٌ جديد في بيت جدتي. وعن طريقها عالجني مجاناً، وزرقني بعدّة أبر لأيام، فتعرفت بخدر على الدنيا من جديد. مشى البرء في الأوصال.
۲ – كانت مصيدتي بجيبي دائماً. أعتدي على حرمة كل أنواع الطيور وأعشاشها وبيوضها. الفخر بإصابة الهدف شغلتني عن أية رحمة إنسانية. حلمتُ مرة أنّني وسط غابة وأمامي بحيرة داكنة. تلصصتُ على طيرٍ من بين الأغصان المتشابكة ومططتُ المصيدة. فاذا بعلي بن أبي طالب يضربني بكفٍّ كبيرةٍ على مساحة ظهري كله. مازلت أشعر بالألم، ومنذ ذلك الحلم تبتُ توبةً نصوحاً.
۳- ضاقتْ بنا الحال تماماً، فاستقرّ الرأي على أن يشتغل أخي الأكبر جميل وهو في الصف الثالث في المتوسطة، كعرضحالجي، مقابل دائرة البريد. كانت ترسلني والدتي لأرى، هل لدى أخي زبون ما؟ كان مع أخي خمسة آخرون من العرضحالجية، وهو أصغرهم، وأقلهم حرفية، وطاولته خاليةٌ من بقع الحبر الدالة على طول التجربة في المهنة.
في إحدى المرات، كنتُ أقف إلى جانب أخي وإذا بقروي بائسٍ، طلب من أحد العرضحالجية، أن يكتب له برقية مستعجلة. كانت دائرة البريد تفرض عشرة فلوس على الكلمة الواحدة. أملى القروي البائس صفحة كاملة، كلّفته كثيراً. لكن ما أن ذهب، وانعطف في الشارع، حتى قفز العرضحالجية الخمسة المحترفون من أماكنهم بابتهاج، وقرأوا البرقية ثانية. قرروا حذف الكلمات الزائدة ليقبضوا ثمنها. تبدأ البرقية مثلاً: «إلى ابن العم السيد فلان الفلاني المحترم»، حذفوا أولاً ابن العم، تناقشوا حول كلمة السيد هل لها ضرورة؟ قرروا إما إبقاء السيد وحذف المحترم، أو إبقاء المحترم وحذف السيد. قرروا حذف «إلى» الأولى، فأصبحت الجملة «السيد فلان الفلاني» وهكذا ربحوا بجملة واحدة ثمن أربع كلمات، ثم أضافوا إليها ثمن كلمتين أخريين، حينما شطبوا بالإجماع «أما بعد»، كان النقاش يدور حول كل كلمة، ألها لزوم أم لا؟ ولم يبقوا من الصفحة الكاملة، إلا على ست عشرة كلمة.
كانت تلك عملية نقدية تحليلية تطبيقية ظلت معي في العقل الباطن حتى الآن. فما كتبتُ شيئاً، إلا وصار فوق رأسي هؤلاء العرضحالجيون المحترفون الخمسة. على أية حال، لم أرَ يوماً أخي يكتب عريضة لأحد. أُغلق هذا المشروع، «وما أضيق العيش؟ وما من فسحة لأمل». .
4 – كنت مولعاً، ربما بالفطرة – بالإلقاء. وحين نصطف نحن الطلاب ونقرأ الأناشيد المدرسية، يختارني المعلمون لإلقاء إحدى المحفوظات. في الصف السادس الابتدائي، فزتُ بالجائزة الأولى للخطابة لمدارس المدينة. كان مهرجاناً حاشداً نظّمته مديرية التربية وامتلأت – حرفياً – صالات سينما الأندلس بالحضور. ثم كانت إدارة المدرسة الثانوية، تنظم كل يوم خميس صباحاً، ساعة كاملة لأفضل المتبارين. في الشهر الأول فزتُ بالجائزة. إلا أن المدير ارتأى أن اشترك ما شئت، على أن لا أعدّ من المتبارين. كان ذلك أكبر تكريم حملته بتلك السن.
لم يكن صوتي عريضاً أو جهوريّاً أو عميقاً. ربما طريقة الإلقاء هي التي كانت تغطي على أية عيوب صوتية. ولم يأتِ ذلك اعتباطاً. فقد كنت أقلد الكبار الناجحين في الإلقاء، من حيث السرعة والبطء، من حيث الصعود والهبوط لتجسيد المعنى. وكانت في أنفي خنّة. قرأتُ في المتوسطة كتاب «ديموستين بطل أثينا” لقدري قلعجي، كيف استطاع ديموستين من التخلص من تأتأته؟ ومن الحبسة في لسانه، رحت أقلد ما قام به من تمارين، فأذهب بعيداً عن المدينة، وأبدأ بالقراءة بصوت عالٍ. تمارين كادت تكون يومية، خاصة إذا خلا البيت لي. ثم قرأت لماذا كان هتلر يؤثر في الجماهير؟ كيف ينظر إليهم واحداً واحداً وكأنه يخاطب كل واحد على حدة. وما هي إشارات يديه؟ مع ذلك فإلقاء المرحوم حامد العزي من أفضل ما سمعت من إلقاء للشعر الرومانسي الشفاف. ينظر إلى الحضور بتركيز، ولكنه لا ينظر إليهم في الوقت نفسه، يستبطن الكلمات، وكأنك تسمعها وهي تقرأ نفسها.
5- نُشِرتْ وأنا في المدرسة المتوسطة أول قصيدة لي في جريدة “الفيلسوف” التي كانت تصدر بمدينة العمارة . نُشرتْ لي بعض القصائد (أو ربما قصيدة واحدة) ببغداد في جريدة الاستقلال. كما نشرت لي أول مقالة نقدية في جريدة “الهاتف” الأدبية. في هذه الأثناء، كنت شبه معروف في الكتابة عن آل البيت ومقتل الحسين على وجه الخصوص. فلقد أدخل في رأسي بعض شيوخ الدين، أنْ سيكون لي قصر في الجنة عن كل بيت أكتبه في آل البيت. صدقتهم ولم أصدقهم، فقد كان هوسي بكتابة الشعر أكبر من أي ثوابٍ. لابدّ أن لي الآن محلة كاملة من القصور هناك. ولكن ماذا لو دخلت جهنم (وهو أكثر احتمالاً!) فلمن ستكون تلك القصور؟
أكملت الصف الخامس الثانوي في الإعدادية المركزية ببغداد.
تزوّدت من الناصرية بهمّين هما النهر ومحطة القطار.
كنت منذ بدء وعيي الأول، نهب فكرةٍ لم أقلها إلى أحد. ولأني كتمتها استفحلت، وبصورة ما عزلتني عما يحيط بي، وصبغت نظرتي إلى الحياة بسوداوية.
كنت أتساءل: ماذا نفعل لو جفّ النهر؟ أرقتني الفكرة، لاسيما وأن الحسين وذويه ماتوا عطشاً. تصورت أن موتنا عطشاً، هو أعسر موت. رحت أبني في ذهني الصهاريج والأحواض وأجمع المطر. أنظر إلى السماء وما من غيمة. أمطار الشتاء لا تكفي. لا تكفينا، لا تكفي حيواناتنا، لا تكفي نباتاتنا. رحماك أيها النهر لا تجفّ. رحماك. الموت عطشاً أعسر موت. إذن بهذه البساطة يمكن أن نزول، بكل تاريخنا ومدارسنا وأحلامنا، ونصبح أثراً بعد عين. هكذا أصبحت اللاجدوى نظرة واقعية استحوذت على كل ما كتبت واكتب. ظاهرة طبيعية واحدة تكفي لزوالنا.
أما محطة القطار فلها فعل اقتلاع الجذور.
محطة قطار الناصرية فرعية. فالقطار من بغداد إلى البصرة يتوقف عند المقيّر، ومن المقيّر قطار فرعي يصل إلى الناصرية صباحاً، وفي المساء يغادر القطار إلى المقيّر للالتقاء بالقطار من البصرة إلى بغداد.
مشهد القطار جليل مهيب، وعضلاته الحديدية جبروت هائل، أصبح معه السفر على القدمين أو على ظهور الدواب أو حتى في السيارات شيئاً رثاً وخطراً ومملاً. حديد لا يتشكى من تعب أو ألم، أو ضياع.لا يتصبب عرقاً ولا يلهث. كان القطار تدشين عصر جديد، ووجوده في المحطة بداية غلبة الحديد على كل الصناعات الخشبية. مع ذلك لم يتغير المحتوى العاطفي للاستقبال أو الوداع.
المحطة تزدحم بالمسافرين والمودعين مساء، الشمس تنحدر قليلاً قليلاً باحمرارٍ، يتجمع الناس كتلاً ودوائر. الأحاديث ممزقة متشنجة، والصمت متورم مملوء بالهواجس والخوف. تغرب الشمس قليلاً بحزن. ولكن ما أن يصيح القطار صيحته البخارية الحبيسة، حتى يتفجر البكاء عالياً. يطول العناق، وترتفع الأيدي بتلويحات غرقی. تغيب الشمس، ويندفع القطار بلا رحمة إلى الأمام بعينه الضوئية الوحيدة في عباب الظلام. يعود الناس في اندحار وقنوط وتشنج. يتخذ الوداع في الناصرية صبغة الفراق الأبدي، في حين يتخذ الاستقبال صبغة النشور بعد الموت.
استحوذت هاتان الثيمتان على معظم شعري، ربما الوداع واللقاء أهم ما كتبت من قصائد، الأشياء المفقودة، الخوف من الأشياء التي ستفقد، اللقاء بالأشياء المفقودة وقد تغيرت، لدرجة نكرانها، جعلت الحزن أصلاً، والفرح فرعاً غريباً وطارئة. وهكذا فعودتي للماضي – كما يبدو – لیست حنيناً بقدر ما هي رثاء، ليست عثوراً على ملاذ، بقدر ما هي مرور عابر على غد شاخ ساعة مولده.
حقاً كتبتُ بعض القصائد مبشرة بالغد. تصورته بوابة النور الذي سيغمر البلاد من أقصى جبالها إلى أقصى أهوراها. تصورته “المهدي المنتظر” كنت أسير نظرة سياسية. على أية حال كنت أنشد غداً يسود فيه العدل بين الناس، الخبز والتعليم للأطفال. الدواء والعلاج للجميع، التقاعد للمسنين، كرامة المرأة، حرية العقيدة والفكر.
مع ذلك يبقى هذا الغد حلماً جميلاً يمكن تسويقه إلى الجمهور والتصفيق. إلا أن غدي الفردي خطر وعقيم. أسعى إلى غد لا يجف فيه نهر الفرات، وإلى غد يظهر فيه الله علانية نراه ونسمعه ونلمسه، ليضع حداً للشك والجدل. أسعى إلى غد لا يشيخ ساعة مولده، إلى غد كامل بلا ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبلٍ، إلى غد يجيبني عن سؤال مؤرق: ما سبب وجودنا؟ لماذا خلقنا أصلاً؟
على أية حال، لا تضم الإعدادية المركزية ببغداد، إلا أذكى طلاب العاصمة، صفوفها مقسمة من ألف إلى واو بحسب درجات الامتحانات في المدارس المتوسطة.