لعنة الكتابة!

الكاتب: سليمان زوڨاري | تونس

لعنة الكتابة!

كان يتعيّن عليّ أن أبدأ الكتابة مبكّراً. ليت الطّفل الذي كنته رمى بالخيوط والمسامير بكلّ ما يملك من قوة لينكبّ على الورق ويكتب كما كان يدوّن الآيات القرآنيّة بالسّمق على ألواح خشبية كألواح موسى مسحت عنها آيات الأمس بماء الطّفل. لم يكن عليه أن يفوّت الفرص على الأصوات التي كانت تتحرّش بأذنيه آناء اللّيل وأطراف النّهار في عمق الصّحراء وواحات النّخيل تحت لظى شمس الأصيل أو ليل صيفها الطّويل. لطالما ظلّ في العراء على فراشه مراقبا أعلى أوراق الشّجر لتلتقط أوّل نسيم يبعث في بقيّة أرجائها رعشة وحفيفا مؤنسا يسلّمه برفق لآلهة نومه. كانت الوشوشات تختلط أحيانا بوسوسات الشّياطين ونعيق الجنّة من وراء الحجب لتقضّ مضجعي وأستفيق مضرّجا بالعرق لأجد القمر يحدّق بي بوقاحة فأكوّم اللّحاف وأعانق الوسادة وأكمل نومتي في غرفتي. ربّما كان تجاهلي لأفكاري وعدم تدوينها ضربا من التوحّد أم هربا من الوحدة التي كانت تفرزها شروج العنف البدني والنفسي الذي كنت ضحيّته. لطالما ألّفت أشعارا في ذهني وتحدّثت مع شخوص من صنع خيالي خلال لعبي الوحيد أو المتوحّد لساعات بطرف خيط زاد عن الحاجة ومسمار عافته المطارق والسّنادين ومقاطع الأخشاب ولكنّها لم تترجم أبدا إلى حروف وكلمات. أحيانا كانت تتحوّل على أوراق الرّسم البيضاء إلى صور سورياليّة بدائية وفي ذهني إلى توق للسّفر، ربّما كان ذلك فرارا من أحابيل شياطين الصّحراء وجنّيات الواحات التي استبدّت سابقا بأبي القاسم الشابي والبشير ومصطفي خريّف. لا زلت إلى الآن أذكر جلستي على الأرض وظهري إلى الحائط في ظلّ الصّباح العذب جانب جدّتي “زينة” مستمعا لحكاياتها مستنشقا رائحتها التي كانت خليطا من الفحم المحترق والبخور وكأنّها خرجت لتوّها من مصباح علاء الدّين لتؤنس لعبي بما جادت به الطّبيعة وزاد عن حاجة النّاس. كنت كلّما أعبر بين لحود مقبرة الحيّ الجديد أتساءل عمّا كانت تخبئه من أسرار تحت رمالها وأحجارها وشواهدها، كلّما اعترضتني حفرة كنت أعزو وجودها أحيانا لليرابيع وأحيانا أخرى للأموات الذين يخرجون ليلا ليتجوّلوا في أرجاء حامّة الجريد أو يصعدوا إلى الكدية لشرب بيرة سرمدية على قمّتها المسطّحة. كنت أركض مع الرّاكضين في تمرينات رياضة “الكيوكشنكاي” حافيًا أدوس على الحصى والرّمل والحجر وأنا أفكّر وأحاور نفسي دون أن أدوّن أفكاري التي كانت تراودني أيضا بين لكمة وأخرى كنت أتلقّاها من المدرّب على بطني او صدري قبل الخوض في قتال ثنائي مع أقراني. الوساوس كانت تغمرني وأراني ألتهمها في كلّ ملعقة من ملاعق الكسكسيّ التي كنت أفرغها في فمي إثر حصّة الرّياضة. أركن إلى فراشي وأغلق عينيّ وأرى بنات أفكاري تركب صهوة كريّات الدّم البيضاء التي تتهادى في عتمة محجريّ. أغيب عن الوعي فتتصاعد الوشوشات المبهمة وكأنّ رأسي قد تحوّل إلى حانة شعبيّة أجلس فيها بمفردي بينما تنسدل الحكايات بين الأفواه وتتطاير مع صحون الفول المدمّس والثّوم وقوارير خضراء وحمراء وورديّة تصلني قرقعتها الموسيقيّة. أربض هناك جالسا إلى نفسي إلى أن يتحوّل ذاك الجوّ العابث إلى كابوس مزعج أبطاله كائنات خرافيّة وعبابيث و سجّان يمنع أطرافي من الحركة وحفر لا قرار لها. أستفيق على مواء قطّتي السوداء المرقّطة او لعيق لزج من لسانها الأحمر وأمضي إلى يومي وأترك الأفكار تتهادى مثل أوراق الخريف لتسقط على تربة وعيي دون أن تزهر منتظرة عجاجا قويّا يثير هدوءها في سجني وينشر حبوب طلعها في حقول الأفكار والألغام على حدّ السّواء. ها إني لا زلت ألعن الوقت والخجل كافرا بالالتزامات والتبريرات مفرغا وابلا من سخطي على نفسي وعلى الحجر والفيروس والمشاريع المؤجّلة والحدائق المعلّقة وعجائب الدّنيا السّبعة. لم يتبقّ لي إلا أن أنظّم هروبا جماعيّا لأفكاري إلى جزيرة من جزر الفارو لتختبئ وتتخمّر في كوخ جبليّ لا يحوي شيئا غير الأوراق والأقلام والكتب. قريبا سأجمعها واحدة واحدة وأسرد عليها خطّة الهروب وأعلّق لها على جدران دماغي كلّ الخطط البديلة وخطط الطّوارئ أبيّن فيها كلّ الاحتمالات والاستعارات الممكنة. أظنّ أنّي سآمرها بنشر أخبار كاذبة عبر سيالة عصبيّة اصطناعيّة لتوجيه دفاعاتي الجويّة والبرية والبحرية إلى هدف آخر غير أفكاري. سأوجّهها مثلا إلى الاهتمام المهووس بصحّتي ولياقتي البدنيّة أو إلى الانشغال بالجراثيم التي يمكنها التسلّل إلى مملكتي أو بتكبير فحولتي. ولكن أظنّ أنّه من الأفضل أن ألهيها بمؤامرة تحاك من خلايا إرهابية في قلبي أو بأعمال تمرّد ينوي اليسار تنفيذها تحت الحزام. ربّما سيكون ذلك ناجعاً من أجل تشتيت انتباهها وإعطاء إشارة التّحرّك لأفكاري وأبنائها وبناتها وأحفادها للهروب من سجن عقلي ذي الحراسة المشدّدة. ربّما أضحّي ببعض الأفكار في المؤامرة الإرهابية القلبية أو التمرّد اليساريّ المنويّ لكي أخفي ما ينوي السّواد الأعظم منها القيام به وأضلّل استخباراتي المركزيّة. ستتسلّل بعض الأفكار الملتحية حليقة الشوارب بين المتآمرين الإرهابيّين الحالمين بخلافة إسلاميّة في فؤادي لتسكب الزّيت على النّار وتفرغ أكياسا من المصادر الشّرعيّة على طاولة شورتهم فيما ستتوجّه بعض الأفكار الأخرى لخصية حركة التمرّد السّرية حاملة معها أناشيدا حماسيّة ومناشير حمراء معتّقة بالثورة وموسيقى أعيدت آلاف المرّات وكوفيّات وبيريهات بنجمة حمراء وباروكات شعثاء مجانيّة لترسيخ التمرّد نظريّا ومظهريّا وسلوكيّا. وبينما يشتدّ غليان المؤامرة وتخمّر التمرّد، ستغادر أفكاري زنزانات الوعي إلى آفاق أرحب لينزل بعضها كما رجال المطافي وبعضها الآخر مثل محترفات التعرّي البطيء على أعمدة كثيرة متلوّية غنجا منفجرة ضحكا رامية عيارات ناريّة في الهواء لتستحيل كلمات وتعابير على الورق أو سلاسل من الأصفار والآحاد في تطبيقة من تطبيقات الملحوظات أو الكتابة على أحد الأجهزة الرّقميّة. سينزل بعضها في حقول من الخزامى لتنشد شعرا في حين تتجه زمرة منها إلى المبغى لكي تتكاثر دون حماية فلا خوف علي الأفكار من الإيدز والزهري فيما تقصد مجموعة أخرى حانات الشّوارع الخلفيّة وما جاورعا من مطاعم رخيصة. أما السّواد الأعظم منها سيسطو على حقول الحلفاء ومخازن الأوراق والأقلام ومكاتب الدّاخليّة لاستخراج جوازات سفر لي ولها. قريبا سنغادر جميعا إلى جزر الفارو، إلى الوحدة والإنتاج والتّكاثر حتّى نزور المقابر.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *