وجوه لتمثال زائف: عراق التفصيخ أو عربة الموت المجاني!
عبدالهادي سعدون
عبدالهادي سعدون
هل هناك ما يمكن قوله بعد عن محنة العراق؟
في كل مرة اقرأ رواية عراقية جديدة أقف أمام هذا التساؤل، وفي كل جديد اقرأه تأتيني الإجابة عاجلة “بالتأكيد.. نعم”، لأننا نحتاج ربما لقرن كامل من الآن وحتى نهاية أجلنا حتى نستوعب مأساة ما حدث للبلاد منذ سقوط الطاغية وحتى اليوم مروراً باحتلال متطاول وسياسات طائفية متأزمة وحروب أهلية ولا أهلية وخراب وموت لا نهاية له و”تفصيخ” لجثة الوطن بينما يتفرج الأغلبية منا حتى لا أقول كلنا.
في رواية (وجوه لتمثال زائف) ينشغل الروائي بمتابعة تفاصيل الوجع العراقي وحكاية الموت المستمر الذي يطال البلاد منذ أيام الطاغية وما بعد عام السقوط في 2003، وحتى اللحظة الراهنة. ولكنه وإن كان لا يؤرخ للأحداث الواقعية التي جرت وتجري في العراق، فهو يبني متن حكائي وتاريخي موازي للأحداث يستفيد فيه من وقائع وتجارب وحكايات لا تنتهي. لكننا طالما نعرف أن الواقع في أغلب حالات العراق يفوق حتى الخيال، فقد نجح الروائي برسم صور متشظية وحيوات متعددة من حالات عديدة لتشكيل هذا الموزاييك المعقد في نص طويل لفهم الواقع وما جرى منذ تلك اللحظة وحتى الأن.
منذ صفحات الرواية الأولى، وقبل ان يعود بنا لحياة العراق والعراقيين من خلال شخصية صاحب التمثال المزيف، نتقابل وبطل الرواية مرهون عيسى الصاحب في الوقت الحالي في مستقره الأوربي متأملاً بحيرة من أجمل ما رأته عيناه، بعد أن ترك عمله تاماً ومكتملاً كأداة بيد جلادي البلاد. شارك بكل أفعالهم، بل كان الأداة الفعلية لجرائمهم وخرابهم، قبل ان يخترع قصة وهمية لمغادرة البلاد، وقد تركهم ليقيموا له تمثال الشهيد لتضحيته بنفسه في سبيل الوطن في سيناريو معد ببشاعة. الخراب يولد خراباً، والجلاد يتحول إلى شهيد، بعد أن كان قاتلاً يخطط ويساهم بقتل الأبرياء الشهداء الحقيقيين في بلد يتآكل تدريجياً والكل يعتبر نفسه شاهداً على هذا الموت المؤكد.
شخصية مرهون من أكثر الشخصيات الروائية تعقيداً وعمقاً نفسياً وتحتاج حقيقة لدراسة طويلة ومعمقة لفهم أسسها وتكوينها ودوافعها، وقد أجاد حسين السكاف بالتعبير عنها وعن أفكارها ومعاناتها وتبريراتها المستمرة. شخصية مرهون ليست من صنع الخيال فقط، بل تستند على وقائع وحشية الفرد العراقي في ازمنة الخراب والموت والتقتيل المبرمج للنفس البشرية. إذا كانت طفولته مأساوية، فوصوله لأن يكون من أصحاب القرار والتنفيذ بحياة الناس، قد منحه فرصة تكوين شخصية خاصة ومتفردة. شخصية واعية ومثقفة ومدركة تماماً لكل الأفعال وما يجر منها بخراب نفسي وتساؤل دائم عن جدوى المشاركة في هذا السيرك الدموي. الجلاد متنوراً ومشاركاً فعلياً بتصنيع الخراب والموت اليومي.
رغم تغليف الشخصيات بأسماء مبتكرة لها علاقة بالخيال الروائي، إلا اننا سنرى أنفسنا في العديد منها، كما سنستدل على البقية في شخوص أهل وأصدقاء وعراقيين آخرين، لا يمكن ان تمر مع أية شخصية دون أن تجد لها علاقة ورمزية معينة مع ما يجري في العراق. عدا ذلك نرى في شخصية مستشار وزارة الثقافة المعلم المثقف والفنان التشكيلي ما يحيلنا لشخصيتين مهمتين في حياة كل عراقي وفي حياة الروائي خاصة وهما نفسهما من يهديه الرواية هنا والإهداء السابق لكتاب آخر أصدره المؤلف في سنين سابقة. هذا التأطير كرد جميل لتلك الأرواح المتألقة التي صنعت أو حاولت أن تصنع فسحة من العقلانية والجمال والمحبة في بلاد ساقطة في وحل قرفها ومؤامراتها وكرهها. روحا ياسين عطية وكامل شياع حاضران، بل محركان بإنسانيتهما ونقائهما ما تبقى من أمل في عراق يمضي إلى الخراب منذ سنين طويلة. من خلال هذه الأرواح النبيلة التي تطوف في سماء العراق، نجد صداها مستمراً على مدار الحياة ومدار الرواية نفسها، مما يمنحنا أملاً وإن كان ضعيفاً، بقدرة الجمال بإيجاد فسحة لها في خراب مبرمج لا فكاك منه.
الرواية تمثلات لهذه العملية المعقدة التي يساهم (نساهم) بها جميع العراقيين بشكل مباشر أو غير مباشر، أعني تلك العملية المستمرة البطيئة ولكن الراكزة والمتمكنة والمتضمنة (تفصيخ) بلد ونفسية وحيوات بشر قدر لهم ان يعيشوا في زمنها الراهن. سحر المشاركة فيها سلباً وإيجاباً يحيلنا كبشر إلى آلهة أو انصاف آلهة ونحن نتشبث بما يجعل منا الأهم والأطول حياة سواء بالمحافظة على أرواحنا دون الآخرين أو المشاركة بجانب من عمليات التخريب المنظم والتقتيل المجاني في حفلة دم مستمرة إلى اليوم. من حياة الطفل مرهون حتى مرهون رجلاً، ينتقل بنا الروائي السكاف من مرحلة لأخرى لكشف نفسية البطل وكيف تتحول البراءة إلى وحشية في عالم لا ينظر إلى الحياة سوى كونها قلادته الخاصة يمنحها لمن يشاء وينزعها عمن يشاء.
مرهون يمثل نموذج البشر المتواطئ مع السلطة، أداة لتنفيذ جرائمهم، وهي بعد ان كانت تتبع الظروف العشوائية للبلاد، أصبح منظمة كمؤسسة كاملة تتبع الرؤوس العليا، وتعتمد على مرهون وجماعاته لتنفيذ قرارتهم التي تصب دوماً بمصلحة وجودهم الأبدي. مرهون ليس بريئاً وهو يدرك ذلك، ولكنه في كل مرة يحاول أن يجد منفذاً معيناً لمعاينة حقيقة وجوده وأسباب مروره في هذه الحياة. وهو يجدها في الكتب التي يعشقها وفي الأفراد الذين أناروا له حياته بالجمال والمعرفة حتى أولئك أنفسهم لن يمضوا بسهولة من أجهزة مشرحته ودماره وموته المؤكد. وهو في كل مرة ينغمس أكثر في لعبة الموت والتقتيل كمشارك رئيسي، يتصاغر إلى ابعد حد. والتصاغر معناه قتل حتى الأقرب منه من أصحاب وأهل مقربين.
في هذه الرواية الكبيرة بأسلوبها الفريد وعوالمها الخارقة، أجدني مع صوت روائي مهم في الرواية العراقية الأخيرة، إذ بعد أن قربنا منه في (مثلث الموت) روايته الأولى التي تدور في عراق الخطف والتقتيل أيضاً، فإنه في (وجوه لتمثال زائف) إنما يؤكد بصورة لا تقبل الشك إطلاقاً على قدرته وقوة أساليبه السردية ومتانة مواضيعه وتنوعها. حسين السكاف يضاف لقائمة قصيرة جداً من أصوات الروي العراقية والعربية القديرة والجديرة بالمتابعة والقراءة والتمعن.