همنغواي وكورونا
علي حسين
همنغواي وكورونا
علي حسين
وأنا اعيد ربما للمرة الخامسة إن لم تخني الذاكرة قراءة كتاب “ارنست همنغواي” الذي كتبه الناقد الأمريكي الشهير (كارلوس بيكر). الكتاب نشر عام 1952 وترجم الى العربية عام 1959 من قبل الدكتور احسان عباس، وقد أصدر بيكر عام 1969 كتابا آخر عن همنغواي بعنوان “قصة حياة”، ويقال أن أرملة همنغواي بدأت بعد أسابيع من وفاته في مهمة فرز أوراق همنغواي الضخمة، رافضة طلبًا من العديد من الكتاب والنقاد الاطلاع على أوراق الروائي الأمريكي الشهير، لكنها وافقت على طلب كارلوس بيكر، فقد تذكرت ما قاله زوجها عن بيكر وإعجابه بكتابه الذي كتبه عنه عام 1952 وكان بعنوان: “ارنست همنغواي.. دراسة في فنه القصصي”، فقد كان همنغواي يلوح بالكتاب في وجه النقاد ويقول هذا الرجل الوحيد الذي تسلل داخل جلد ارنست.. في هذه الإعادة للكتاب وجدت أن همنغواي استخدم كلمة كورونا عام 1921 من خلال قصيدة عن آلته الكاتبة التي أطلق عليها اسم كورونا :
القصيدة التي يخاطب فيها همنغواي الشاب الآلة الكاتبة، ويقول :
طاحونة الألهة تطحن في بطء
إلا أن هذه الرحى
تدور في نغمات ميكانيكية متقطعة
ثم أن هؤلاء المشاة القصار الجاهلين – مشاة العقل –
وهم يجتازون هذا الحمى الوعر
يجعلون “كورونا” هذه
مترليوزا لهم .
كانت الكتابة بالنسبة لهمنغواي اشبه بالطقس اليومي فهو يستيقظ الساعة الخامسة صباحاً، كان ابنه يقول أن والده لديه مناعة ضد الأعراض الجانبية للسهر والإفراط في الشرب، فيما تقول زوجته أنه كان ينام مثل طفل في غرفة معزولة وبغطاء عينين أسود. في لقاء أجري معه في باريس ريفيو عام 1958 ، شرح همنغواي بالتفصيل أهمية تلك الصباحات: “عندما أعمل على قصة أو كتاب أبدأ كلّ صباح ما إن يطلع الضوء. لا أحد يقاطعك والمكتب بارد وتدفئه بالكتابة. أكتب بلا توقف، أتوقف عندما أعرف ما سيحدث لاحقاً. أكتب حتى تعرف أنك ما زلت تملك المزيد من عصير الكتابة. أنك ما زلت تعرف ما سيحدث، لاحقًا عندما تتابع الكتابة. لا شيء يمكنه أن يؤذيك، لا شيء سيحدث، لا شيء له معنى حتى يأتي اليوم التالي وتتابع ما كنت تفعله من قبل. ما يصعب تجاوزه حقاً هو الانتظار لليوم التالي”
كان همنغواي يكتب مسودة أولى على ورق خفيف جدا وبقلم الرصاص. بعدها ينتقل للآلة الكاتبة. وكان أيضاً يتابع عدد الكلمات التي يكتبها يومياً “كي لا اخدع نفسه بنفسي ” .
في رسالة يبعثها سكوت فيزجرالد صاحب الرواية الشهيرة ” غاتسبي العظيم” يصف همنغواي الشاب بقوله: “في هذا أنبئكم نبأ كاتب شاب اسمه ارنست همنغواي يعيش في باريس .. لا يملك سوى آلة كاتبة عتيقة.. وهو ذو مستقبل لامع.. لن أوفر جهداً في البحث عنه، فإنه الجوهر الذي انتفى منه الزيف ” .
يختتم كارلوس بيكر كتابه بمقطع من رواية الشيخ والبحر لهمنغواي: “كان ما يزال مستلقيا على وجهه، والصبي جالسا إلى جانبه يرقبه. حينئذ كان الشيخ يحلم بالأسود “. وينتهي بيكر عند هذه الجملة المؤثرة: في ختامي بدايتي، وفي فنائي حياتي .
في أيامه الأخيرة لم تسعف الكلمات إرنست همنغواي. وقف ذات ليلة متجمداً أمام آلته الكاتبة و أختار أن ينهي حياته بطلق ناري.
قالت زوجة همنغواي “إن الرصاصة انطلقت خطأ بينما كان ينظف بندقيته ”
قال لهوتشنر الذي كتب عنه أجمل الكتب بعنوان ” بابا همنغواي ” : “لقد امضيت وقتاً كبيراً في قتل الحيوانات لكي لا أقتل نفسي”، كانت الكتابة ملاذه من هاجس الموت، احتقر التزويق في الكتابة وأحب الاقتصاد. حين منحته الأكاديمية السويدية نوبل الأدب في 1954، رأت فيه كاتبا تمكّن من فن السرد، خصوصاً في الشيخ والبحر وتأثيره في الأسلوب المعاصر. خشي ألاّ يكتب شيئاً ذا قيمة بعد الجائزة، لكنه وجد في أوراقه القديمة مئات الصفحات عن حياته في باريس، فاصدر وليمة متنقلة وفيها تحدث عن حياته كاتباً فقيراً وعن آلته الكاتبة .
في كتاب كارلوس بيكر نقرأ عن همنغواي الذي كان يعتبر ان أفضل شيء في الحياة هو فرص كسب المعارك .