قربان

جمال أكاديري

عاملة الاستقبال هي التي أخبرتها ، في لقاء عابر في الشارع ، بوجود اللوحة . إلا أن الفتاة نست ذلك ، بسبب حُمّى مفاجئة ، أطبقت عليها ذالك اليوم و طيلة أسبوع كامل . لم تتذكر ما قيل لها إلا في الحمّام ، عندما راحت تستحم ، و تزيل عنها عرق مدة من النوم في الفراش .فسبحت بسرعة مع خيالاتها ، تتصور مستغربة الشكل المفترض ، الذي عليه كيَّف و أرسى الرسام جسمها الطويل القامة.

في ساعة مبكرة من صباح يوم دافئ ، و على مقعد مخملي وتير ، متواجد في ردهة فندق “مراكش” و بالضبط أمام لوحة ذات إطار ذهبي ، بُنّية العمق ، مُعلّقة على جدار من المرمر مغلف بالورق الوردي ، جلست صامتة ، مسحورة أمام شفافية ألوان منتقاة بعناية ؛ الساق على الساق ، والكف على الجبين . و بأنفاس حارقة تعاود و تغمس نظرها في النقط المثيرة ، و ثقل اللذة الصافية يسوقها قليلا فقليلا إلى الاندهاش نفسه ، المستعاد كل مرة .

حولت نظرها إلى راحة اليد ، فركت الأصابع ، و ظهرت الشرايين الزرقاء مع خطوط نحيلة شبه مرئية. رفعت الذراع اليسرى إلى مستوى أعلى ، ثم خَلُصَت إلى أن هناك إضافة صائبة في دقة المنظور، و ازداد شعورها بالانبهار.

مقحمة أكثر بصرها في معالم الرسم ( كانت تجهل كفاية مدى الضيق و الرعب المختبئين و راء علاقة التماهي و المسخ الآخذة تدريجيا بالسقوط فيها ) بدأ توترها يكبر ، و يوقظ

إحساسها القديم بالحذر .فكرت بمشقة في الرسام المكسيكي العجوز، و إلحاحه بأن يرى حلاوة طيفها العاري الخفيف ، محكما إلى لمسات الريشة. و سيطر عليها فورا ، مرح ذلك الصيف و جرأتها و استخفافها بأن تُرى نصف عارية ، من فوق رفوف غرفة مشمسة مطلة على البحر .

صار الواقع من حولها في رحابة الدوار. غدت تبتعد عن ذالك الشعور الدائم بذاتها ، بحلولها في مكان شيء ينحلّ في نسيج القماش و يَرْتجّ مع ضياء الأشياء العائمة . على متناول خط الهيام ، كانت قد بلغت عتبة الهمهمات ، ما ذا لديها لتهبه لكثافة الإحساس ، ما عدا ما يمنحه لها من فتنة.

ها هي تشعر بسخط الطرف الآخر……………

نبضها ، حركاتها الطفيفة ، كان العجوز المكسيكي مشدودا بقوة إلى وجودها هناك. يراقبها برؤيا تثير من شدة التمكن.مقرفصا تحت خشبة النافذة حيث يترقرق هواء المساء البارد ، كان يرى بكل ما يلزم من الوضوح و الصفاء ، المسافة و الزمن لم يعدا عنصرين محتومين.

وقفت المرأة المسنة بجوار الشجر ، تنتظر أن ينتهي رفيقها من رمي السيارة في الحفرة الكبيرة بطريقة واثقة مدت يدها المرتجفة لوجهه الصلب الملتحي و لاطفته ، استقبل لمستها الحنونة على نحو حزين. كان الحبل ملقيا على كتفه ، و القيود في جيبه تصطك. و دخل الصمت كاتما حضوره منسابا بينهما. حتى أن العجوز ارتاب أن شيئا من هذا سيتم ، كما كان الحال لدى كهنة الآزتيك الأجداد القدامى ، و أن هذا يتطلب طاقة خارقة. بالداخل كان الألم سائرا يرتخي، كما لو شاء لذاته أن يتبخّر، و كان الخيار حاضر و أكيد . العجوزان فهما هذا على شكل هيبة، تشير إلى وجه العتمة.

كان كل شيء منظما بدقة :

القيود الحديدية ؛ مدار الاستواء ؛ كمية التشاؤم المخرب ؛ القوة الكامنة ؛ الحب و خفته؛ وفي النهاية الطريق إلى الشلال الذي يهدر في الجبل .

مر وقت مديد من الطقوس الثقيلة ، التي تمارس مفعولها على أبعد مسافة. كان العجوزان منشغلين بهذا التعزيم الروحي النادر ، الذي يتطلب ما يفوق الشجاعة. بعد أن رسما أشكال هندسية على الأرض ، جلسا متقابلين على ركبهما أمام النار ، و شرعا في إنشاد ترنيم مُنغّم بأعلى صوت. عندها التهبت النار أكثر ، و ازداد تشنّجُهما ، و أخذا يبكيان بحرارة ، على ما كان يتفسّخ في رأسيهما بالتكّهن. بظهور حمرة الفجر ، كان كل شيء قد انتهى . و باختفائهما النهائي في مصب الشلال ، اختفت اللوحة كذلك .

احترقت و أحرقت معها كل محتويات الفندق.

كاتب من المغرب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *