الجواهري الذي دلّنا على دروب الحرية مبكراً
د. حسين الهنداوي
معرفتي بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري مديدة جدا اذا جاز القول وعميقة كما أزعم، لكنها ظلّت خارجية وموسمية وعن بعدٍ ومن طرف واحد، طرفي، دائما. لحظتها الاولى تعود الى تلك الايام من مطلع عام 1964 حين همس عامل في مطبعة الهلال في شارع المتنبي ببغداد بأبيات عجولة من قصيدة للجواهري ضد قادة انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الذي دبرته المخابرات الامريكية منها “يا عبد حرب وعدو السلام..” في وصف كبير سفاحي الانقلاب وهو بعض ما تبقى في ذاكرتي من تلك اللحظة.
المناسبة اللاحقة، كانت في العام نفسه عندما نجحت باقتناء اول نسخة من “ديوان الجواهري” بطبعة صادرة في 1961 وبجزء اول لم تسمح الرقابة الحكومية بتوزيعه خشية عدوى جرأة الدعوة الى الحرية التي اشتهر بها وغدت تعني التمرد في نظر السلطة العسكرية العارفية الاقل قسوة من البعث. يومها، جمعت عدة دراهم وأعطيتها لبائع كتب في احد الازقة الخلفية من شارع المتنبي ببغداد ليمنحني في الخفاء نسخة مغلفة من ذلك “الديوان” ذي الورق الاسمر، انطلقت اثره اسابق الريح الى دارنا في مدينة الحرية، لأنتهي من قراءته كاملا دون توقف قبل ان تتناقله ايدي عدد من زملائي في المدرسة. ولقد شدني من القصائد رائعته “احاول خرقا في الحياة فما أجرا” التي صرت اعرف مقدمتها عن ظهر قلب كأول قصيدة حفظتها في حياتي.. فيما ظلت لحظة اكتشاف الجواهري تعيش في مخيلتي كمخاطرة كبرى بذاتها، قبل ان اكتشف لاحقا اكثر من واحد سواي يحب “احاول خرقا” ولا سيما بين تلاميذ مدرستنا التي سميت “ثانوية الشعب” “اليسارية” كما قيل والملقاة في زاوية من الكاظمية.
هكذا تعرفت لأول مرة على شعر للجواهري. وقد ظلت بعض مقاطع منه ترافقني بفضل تلك القراءة الاولى، بل ما زالت تحوم على الاسماع كلماته التي تعبق بحرارة التلهف للحرية ببعدها الوجودي الاسمى في تلك القصيدة الرائعة بقوله: “ويؤلمني فرطُ افتكاري بأنني، سأذهب لا نفعاً جلبت ولا ضُرا”، وخاصة بقوله “وما انت بالمعطي التمرد حقه، اذا كنت تخشى أن تجوع، وان تعرى!”.
وأقول ببعدها الوجودي، لأن الجواهري لم يدع الى التمرد من اجل التمرد مطلقا. وهذا ما يؤكده بدقة في قصيدته “سبيل الجماهير” بقوله “لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ”، حيث يكشف لنا على الفور ان التمرد ليس الا التجدد، و”أنْ لا حياةَ لأمّةٍ تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد”، اما التجديد فليس في “أن يرى الفَتى يَروحُ كما يَهوَى خليعاً ويغتَذي” و”لكنَّه بالفكر حُرّاً تزَينهُ تَجاريبُ مثل الكوكَبِ المُتَوقِّد”، وبالتعلم من البشر الآخرين: “مشَتْ اذ نضَتْ ثَوبَ الجُمود مواطنٌ رأت طَرْحَهُ حَتماً فلم تَتردَّد”.
فالجواهري لم يعتنق ايديولوجيا شرقية او غربيا بتاتا. كل شعره يشير بالمقابل الى انه كان حيوي النزعة الانسانية، حيوي التواصل مع محاولات وتطورات الحركات التحررية لشعوب العالم خلال النصف الاول من القرن العشرين، وربما كان على اهتمام بالافكار الفلسفية في بعض الفترات على الاقل ويكفي ان نتأمل بعض حوارياته الداخلية في “قف بالمعرة” وعشرات القصائد الاخرى لنتأكد من ذلك. بيد انه كان بلا ريب منتميا الى تيار تنوير علماني حر وانسانوي مناهض للاستبداد وغير عقائدي باصرار. وقصيدته في رثاء جمال الدين الافغاني مهمة هنا:
هَويِتَ لِنُصرةِ الحقّ السُهادا فلولا الموتُ لم تُطِقِ الرُّقادا
وإنْ كانَ الحدادُ يَرُدُّ مَيتاً وتَبلُغُ منه ثاكلةٌ مُرادا
فانَّ الشَّرقَ بينَ غدٍ وأمسٍ عليكَ بِذِلَّةٍ لبِسَ الحِدادا!
جمالَ الدين ، يا رُوحاً عَليّاً تنزَّلَ بالرسالة ثمَّ عادا
بيد ان الجواهري اراد ان يظل شاعرا اولا وشاعراً حراً خاصة. وما أثار دهشتي في نزعة “الحرية” لديه حرصه الواعي والدائم على عدم تعكير فطريتها بأية لوثة دوغمائية قد تمسخ البعد الواقعي النقدي الذي حرص على ان يربطه بها في شتى مراحل تجربته السياسية والانسانية المعقدة والمترامية. وهي نزعة ظلت عميقة ولصيقة وحميمة في شعر وقبل ذلك في شخصية شاعر العرب الاكبر، عبرت حميميتها عن نفسها على هواها دائما، وباستنفار كل مقاومتها بوجه اي ردع او مصادرة، انما بمسؤولية ثورية الطابع وواقعية المضمون في آن، ما يفسر تلك الجدلية الخاصة والثابتة والمثيرة فيها: جرأة نقدية تنويرية راديكالية مخاطرة من جهة، وحذر مذهل من شراك الايديولوجيا مهما عظمت اغراءاتها ونفوذها في لحظة تاريخية معينة او اخرى. كما لو ان الشاعر الكبير ظل، كنبع ثرٍّ وهادر، وفياً، باصرار رومانتيكي التعالي اذا جاز القول، لتلك المدرسة العظيمة التي كان امرؤ القيس وابو العلاء المعري وابو الطيب المتنبي قد خط هذا او ذاك من خطوطها الاولى وكل بطريقته، لتجتمع كلها فيه دون المساس بخصوصية اصالته.
المتنبي هو الاجمل والاقرب الى الروح الجواهرية ومع ذلك دون تبعية قط لها، فيما المعري الذي جاء متأخرا كالسيل الجارف، لم يجرف شيئا من جبروتها الفطري العنيد. اما امرؤ القيس، فقد ظل سريّ الاشعاع ونبعا خصبا لكل تلك العبثية الجميلة في شعر الجواهري، والتي اتهمت مجازا بالتشاؤم حتى حيال العراق الذي، عند هذا الشاعر الكوني بإمتياز، ليس وطناً رحيماً او “دجلة خير” على الدوام بل اقرب الى رمز قاس احيانا ومحض وهم او حلم مستحيل، تماماً كما هو حلم مستحيل ومحض وهم صبح امرؤ القيس. وعلينا نحن ان نكتشف شرايين وأوردة صلة الرحم او التلاقي بين حدس الظليل الخالد امرؤ القيس بقدره مع ديار حبيبة تركته هائماً بين الاطلال والبراري في “ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ”، وحدس الجواهري بقدره مع « أطياف و أشباح » وأكاد اقول اطلال عراق تركه لغربته بين ما لا يحصى من المرافئ والمنافي: “وَمَـا لَيْلـي هُنَــا أَرَقٌ لَـدِيْغٌ وَلَا لَيْلي هُنَـاكَ بِسِحْــرٍ راقِ”
التقاطعات الاخرى عديدة ومثيرة وتحتاج الى وقفة مستوفية بذاتها الا انها تمكث حصرا في اطار تلك العبثية الوجودية التي لم تفارق الجواهري في لحظات صفائه الاعلى والاكثر رحمة.
مع المعري يختلف الحال جذريا. فالوحدة بين الشاعرين تأخذ بعدا اكثر علانية واعظم صدى، بيد انها لا تنزل الى الجذور ولعلها لم ترد ذلك. قصيدته الشهيرة “قف بالمعرة”، قصيدة “فلسفية” نقدية تحريضية عصماء. الا انها خارجية بالمجمل واكاد اقول وصفية لا نجد فيه تماهيا مع روح الجواهري المتشظية لكن غير المحبطة بتاتا كروح المعري. انها مجرد قصيدة محكمة البناء والثراء اللغوي والعمق المعرفي والسمو الانساني كتبت لمناسبة الذكرى الألفية لوفاة أبي العلاء المعري والقيت في مهرجان أقامه المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1944 فيما اضفى الظرف السياسي وحضور طه حسين، فرصة منحها شهرة عظيمة انعكست على صاحبها بداهة. لا يشعر الجواهري بالحرية في تماهيه مع المعري ولذا لم يتملك هذا روح الجواهري الذي لئن تعلم الكثير من “شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء” وكان على جانب عظيم من الطموح الروحي وحتى القلق الوجودي والشجاعة المغامرة مثله، وجد في ذاته “جنَفَاً عنِ وعي فلسفةٍ تقضي” بهذا وذاك.. مفضلا المكوث شاعرا حرا ولذلك لم يشأ بل لم يكن ليقبل ابدا في دخيلته ان يكون رهين مجرد محبس واحد، ناهيك عن محبسين، تاركا وراثة بعض مجد أبي العلاء، دون عظمته بالطبع، لطه حسين.
ومع ذلك تسللت من أبي العلاء الى صدر الجواهري نار متوقدة وسامية ومعطاء وحمراء.. ونحن على اية حال لا نستطيع تذكر سمو سخرية “نامي جياع الشعب نامي” للجواهري دون ان تراودنا أصداء «أفيقوا أفيقوا يا غواة..” للمعري.
صلة الرحم بين الجواهري وابي الطيب المتنبي قيل فيها قبلنا الكثير. ونعرف ايضا ان الجواهري أعلن في أكثر من مناسبة، عن خصوصية عمق وحميمية علاقته الروحية والشعرية تلك بسليل الفرات والرافدين الآخر إبن وطنه وكوفته الذي كان في صباه يحفظ له في كل يوم قصيدة، والذي خلده ايما تخليد في اكثر من قصيدة رائعة. بيد ان الحرية، لا الثورة ولا التمرد ولا الحنين ولا الاطلال ولا حتى الحب، من سمح بجعل الوحدة الروحية بين الجواهري والمتنبي تبلغ تلك الدرجة من التماهي وأكاد اقول المطلق. فكلا الشاعرين الخالدين ولد حرا وقرر ان يظل حرا مهما كان ثمن ذلك وهنا تماثلهما الاعظم.
وللحديث صلة تطول جدا.. عن الجواهري الشاعر الذي دلّنا على دروب الحرية مبكراً.