عن مظفر النواب
فاطمة المحسن
عندما عاد مظفر النواب إلى العراق من سفر طويل، كان بالكاد يحمل قدميه كي يخطو خطواته على أرضه. ثمة سلام على محياه، وعيناه غائمتان في سحابة كثيفة من الحزن. ولم يكن قبلها سوى الرجل الحزين، كلما التقاه الأصدقاء بالصدفة أو بموعد مدبر.
الصوت الطفولي لبطلة قصيدته، يحمل الكثير من الكركرات، صوت فتاة الهور التي تمرق بأثواب قوس قزح بين البردي. جنية الأفق المائي الممتد تحت شموس الخليقة. هنا حيث اكتشف مظفر كنزه، انبثقت مفرداته من قصص حب فطري شهودها طيور ترتحل على طول المواسم.
كل حصيلته التي خلبت لب العراقيين، هو ذلك الضعف في الحب، النقص الذي يدعيه الإنسان لنفسه، والعطب في السنوات حين تخترم فتوة العمر، ومن يقل غير ذلك فهو واهم.
لم يبق من القصيدة الشعبية السياسية الجديدة التي وضع أصولها النواب، سوى صوت الحب الرومانسي، العاطفة البكر التي لا تعرف سوى هرطقات الجسد ولغة عشقه الحميمي. الشحنة الحسية المتوترة لفطرة الطبيعة وروائحها الحريفة.
رأى مظفر عددا لا يحصى من طيور القصب، ولم يكن بعيدا عن رؤية بورخيس وقبله فريد الدين العطار لهذه الطيور التي لم تكتشف في رحلة النهاية سوى نفسها. أشك بأن مظفر عشق يوما، ولكنه حلم بالعشق، وأحصاه، وتفلسف في لغة الجسد الصغير للمرأة وهي تجعل العالم على مقاسها مصغراً بأسمائه وأفعاله.
تاريخ قصيدة الحب بالمحكية العراقية ارتبط بالريف، وريف الجنوب تحديدا،وتلك معلومة تبقى ناقصة إذا تذكرنا الشعر البدوي. ولكن النواب الذي كتب الكثير من قصائده بالمحكية الجنوبية، مثلما كتب بعضها بلهجة بغداد مدينته، انطلقت تجربته من وعي بعالم الفلاحين المنسيين في الجنوب، حيث يربط المثقف هدفه بالتنكر لأرستقراطية ثقافية، تضع للناس مراتب في الحب والحرية.
وهكذا اكتشف البغداديون وكل العراق معهم، جمال تلك العوالم المكتنزة بالشعر. ولم يكن هدف مظفر بعيدا عن فكرة ربط المعاصرة الأدبية بالحداثة السياسية، تلك التي ترى إمكانية نسج العالم بخيط الآيديولوجيا.
انطلقت شرارة الحداثة في الشعر الشعبي العراقي،مع رحلة الزورق الذي حمل مظفر إلى الهور،على عهد قاسم، وكان الإصلاح الزراعي قد زاد عدد المهاجرين، وقوى شوكة الإقطاعيين، وتلك قصة أخرى ليست موضع قولنا. بيد أن رحلة مظفر في هور العمارة، قد أسكنته المكان، ولم تكن مجرد فرجة وإلهام ومسايرة، لمن كان يمثله مظفر الشيوعي، بل كانت اكتشافاً وانتقالاً باللغة الشعرية من فضائها الفصيح إلى منقلب أكثر التصاقا بالمعنى. اختلفت العلاقة بين المثقف ومتلقيه وموضوعه، قلب النواب العلاقة بين الفنان وفنه، فقد مثّل دور المتلقي حين كان تلميذا في مدرسة الفلاحين، وفي العودة إلى درس اللغة البدئي، وتصويتات ما قبل الكتابة.
لم يعد الدال محالا على عالم ثقافي، بل كان المدلول هو الفكرة التي تسكن لغتها وتحتضنها وتنافس وتزيح “الثقافي” منها، وترجعه الى أصله الأول، باعتبار الثقافة ملكاً لكل الحضارات، البدائية منها والمتمدينة.
بقي شعر مظفر منذ ” مضايف هيل” 1959 ” عشاير سعود” 1961، “جايتنة مزنة”1962 وحتى “الريل وحمد” وسواها من القصائد، بقي هذا الشعر يتداوله رفاقه من المثقفين في حيز محدود. ولكنه انتشر بين طلبة المدارس والجامعات في وقت لاحق، نهاية الستينات وبداية السبعينات، بفضل مجموعة أخرى انتسب اليها النواب فكراً، حين انشق الشيوعيون على أنفسهم إلى فرقتين، فكانت قصائد مظفر ملهمة ومستكملة صوت التيار الذي سمي “الكفاح المسلح” .
كان خالد أحمد زكي سكرتير برتراند رسل، ومؤسس المحكمة الدولية العليا، قد ترك كل مناصبه وشهاداته في بريطانيا، ليقود حلم الثورة من أعماق الهور، مستنقعات هوشي منه العراقية. فكرة رومانسية وشعرية دفع ثمنها كل من رافق تلك الرحلة، حيث أُبيد معظمهم. ولكن مظفر جنى ثمارها شعراً تسّرب من زنزانته إلى العراق بمجموعه. حتى البعث الذي محق تلك المجموعة، كان شبابه يردد أشعار مظفر. تلك هي الوظيفة الجديدة للأدب، فالسياسية في الأدب هي الوسيلة، ولن تبقى غاية إلى النهاية. وعندما يكتب مظفر قصيدته المليئة بالدماء النازفة، تشفع له ألوان الحب وهي تنبثق مثل زهور اللوتس المتراقصة بين قصب البردي.
والحق أن النواب لم يكتب سوى ديوان واحد وبضعة قصائد تنتسب إلى “الريل وحمد”، وما عداها محض تنويع على تلك الشهرة الضاربة التي انتزع فيها الشعر نفسه من عالم الأقنعة، سواء تلك التي تعود إلى التراث أو تنهل من مفردات الحداثة الغربية. حتى رواد الشعر الحر، ما كانوا بعيدين عن هذه التهمة.
بدا شعر النواب وكأنه زرع طالع من تربة الطبيعة، ولكن المفارقة فيه أبقت الكثير من صوره ونبرته عصية على سماع الناس الذين يتمثل صوتهم، عصية على الفلاحين الذين يكتب عنهم. فمظفر بلمساته التجريدية، وصمت كلماته ونظام تقطيع بيته وميزان موسيقاه، وابتعاد قصيدته عن البنى اللغوية للنموذج السائد في الشعر الشعبي الجنوبي، غرّب قصيدته عن أهلها، قدر ما عمل على المكوث في العلامات الإبلاغية للمكان الذي يحاكي عاطفته ومفرداته.
هل بمقدورنا القول أن تقنيات قصيدة النواب، عادت الى المربع الأول في الشعرية العربية، حيث تختلف المقاصد ولكنها تبقى واحدة في رحلة الوصول إلى الجديد.
ما فعله السياب، تجّسد في قدرته على تطويع وتغريب العاطفة العراقية، كي يختصر المسافة بينه وبين والشعر العالمي. ولكن مظفر فعل العكس، فقد كانت العاطفة الساكنة في فصاحة عذريتها، طريقه إلى توليد المعنى الحداثي في القصيدة.
لعله انقلاب أوصل الشعر الشعبي العراقي إلى مرقى المنافسة مع الشعر الفصيح. وظهرت صحبته الأغنية الجديدة. ولكن الشعر المكتوب بالمحكية العراقية بقي يتأرجح في ميزان الثقافة العراقية بين السمو والابتذال. وليست السُخرة التي استخدمته فيها السياسية الحربية، وعبادة الفرد، وراء ابتذال الشعر الشعبي وحسب، بل الجماهير أيضا. هي الجماهير، حين يقصدها الشاعر يضع شعره بين شفرة سيفها البتّار.
ما جناه المغنون على شعر مظفر، كان ويا للمفارقة، قد حفظ مكانته بين الأجيال الجديدة، فتلك الألحان المهلهلة، والأصوات التي تشبهها والتي غنت قصيدته، أسهمت على نحو ما، في بقاء صيته على ما كان عليه، رغم ابتعاده عن العراق.
شعر النواب الفصيح، خلق له شهرة موازية بين العرب، ولم ينافسه في أي لقاء منبري في الخارج سوى الجواهري ودرويش ونزار قباني.
ولكن العراقيين من النادر أن يتذكروا هذا النوع من الشعر، فالنواب يبقى في تصورهم شاعر القصيدة الشعبية الحديثة الأول، ولن تغير صورته قصائد كتبها بالفصحى وصفقت لها الجماهير العربية. وهذا الزعم هو تورية أو مجاز، أو اختصار، لما يمكن أن يرى قاريء شعره من توتر بين جمالية قوله وحمولته السياسية.