الأمومة والضياع في معلقة لبيد بن ربيعة العامري

صلاح نيازي

النمنمة ( الصعو)، أصغر الطيور قاطبة

ستقاتل البومة دفاعاً عن فراخها في العش

الليدي مكبث- مسرحية مكبث

“كالوالدة مْضيْعهْ ولد”

أغنية شعبية عراقية

هكذا ببساطة جدولِ ضرب، معلقة لبيد، إحدى عجائب الشعر. بحرها الموسيقي الكامل، لا رِدْفَ له في الوقار، والرزانة، كقدّاسٍ جليل، عميق القرار. فإذا وصلنا إلى مشهد الظبية التي أضاعت ولدها، نكون قد وقفنا قُبالة معلمة شعرية في القلق والجزع. ولأن الظبية مؤنسنة فإن تجربتها تعم كلّ أمّ.

لله درّك، أيّها الشاعر كيف تقمّصتَ، الكائنات الشتّى، بشراً، وطيرا، وشجراً، وحتى حجرأً.

كيف دلّتك فطرتك الرعوية على أعقد تقنيات القريض الحديثة. بهذا المعيار ليس هناك شعر قديم أو شعر حديث. إنّما هناك شعر ليس إلاّ، وما همّ بأية لغة كُتِب: محلية أم أجنبية، حتى لوجاء بلهجة عامية. التجربة هي المعيار. الشعر كالموسيقى إن تقادمت فيه الألفاظ أو اختلفت من زمن إلى زمن ، فهي لحن واحد معزوف على آلات مختلفة. التجربة باقية والألفاظ هي التي تتغير. اللحن باقٍ والآلات هي التي تتغير.

كنت قرأت معلقة لبيد هذه، ثلاث مرات. في الأولى يوم كنت في رطوبة الصبا. عصرئذٍ أشبعت غروري ولم أشبع فضولي. الكلمات صعبة تقطع النفس، ولا ينفع معها قاموس. ثم في المرحلة الدراسات العليا بلندن باللغة الإنكليزية. (أوّل ما يُفتقد في ترجمة الشعر من أية لغة، إلى أية لغة هو الموسيقى). ها إنني الآن أعيد قراءتها للمرة الثالثة ببيئة غريبة، سحنةً ورطانة، تأريخاً وجغرافية. فإذا بي أمام قِبلة شعرية مرهوبة تورث الخشوع، أمام لوحةٍ جدارية مسحورة ما تزال طريّة لم تجفّ أصباغها بعد. إنها بنت كل زمان في الجمال، ومسلّة كل عصر في التقنيات الفنيّة. أمّا بناؤها فيتدرج كعملية نموّ نباتي تحت ريشة رسام تتوالد فيها الخطوط والألوان بالتدريج. المعلقة

بالتالي تدشّن أول المفاهيم عن القصيدة العضوية كما نفهمها في الوقت الحاضر.

يمكن وضع هذه المعلقة بمكنوناتها التراجيدية إلى جانب ما تحفظه ذاكرتنا من مشاهد مأساوية كحلم انكيدو، ليلة رأى نفسه بين السماء والأرض، فإذا بفتى مكفهر يشبه طائر الصاعقة، ينقضّ عليه ويقوده إلى عالم الظلمة في باطن الأرض حيث الأموات، أحياءٌ بصورة ما. وكذلك إلى جانب وداع هكتور لزوجته كما صوّره هوميروس في الإلياذة، أو مرثية ابن الريب لنفسه، يوم “أنْ سهيل بدا ليا“،أومرثية آبن الرومي لابنه محمد الذي أحاله النزف في أخطر اللحظات احتضاراً من حمرة الورد إلى صفرة الجاديّ. كذلك في الطليعة رثاء الشاعر الأسباني فيدريكو غارثيا لوركا لمصارع الثيران اغناثوس سانشس ميخياس. “في الساعة الخامسة عصراً تماما”. تكرارها المشؤوم كدقات طبل تنذر بالخراب.“الساعة الخامسة عصراً” مسحت كل ساعة سواها. بها يبدأ التأريخ وبها ينتهي، وكأنْ تعطّت عضلات كل ساعة.

أمّا من حيث التقنيات أو الأفانين الشعرية في المقطع الذي نحن بصدده، أي الظبية وضياع ولدها، فهي تنتمي إلى أفجع المآسي الشعرية في الأدب، من حيث الذعر والقلق، كمأساة الدكتور فاوست يوم تخثر دمه أمام الساعة. عيناه مشبوحتان شاخصتان، وعقربا الساعة يشرفان على الإطباق. ها هما يقتربان من الساعة الثانية عشرة. تمنّى أن يكون قطرات في بحر وتمّحي من الوجود. راح يتذلل أن يتوقف الزمن وتكف النجوم عن الحركة . تنازل عن جسده وتوسل أن يحتفظ بروحه فقط. قيامته تقوم أمام عينيه، يراها بأمّ عينيه. رحى الزمن تدور بانتظام ثقيل رتيب، طاحنة ما تبقى له من دقائق وثوانٍ، وروحٍ وجسد مرّة واحدة. ولات ساعة مندم.

كذلك يمكن وضع ذعر الظبية ساعة ضياع ولدها إلى جانب ذعر لوكرس ( لوكريشا) كما صوّره شيكسبير في قصيدته :”آغتصاب لوكرس . ليلتئذٍ انسلّ تاركوين صديق زوجها وكان غائباً، إلى مخدعها كشبح، شاهراً عليها سيفه بيد، وشهوته المنتصبة بيد. تذرّعت إليه بكلّ ما قننّته البشرية من قيم دينية ودنيوية، إلا أن شهوته راحت تتصلب أكثر فأكثر. قذف فيها سائله اللزج، وكأنْ أفرغ في جسدها الزعاف. ها هي “ترتجف كما يرتجف الطائر المذبوح توّاً كما قال شيكسبير. اشتعل العار في جسدها، وسدّ دخانه الذفر قصباتها الهوائية فاختنقت. لم تتحمله فانتحرت:

“وتحت قبضتيه الشادتين عليها شدّ الحبل

استيقظت لوكرس

وقد لفّتها و أذهلتها آلاف المخاوف

ومثل طائر مذبوح للتوّ

تمددّت ترتجف”.

( لدى الأخطل الصغير صورة مشابهة لهذا الطير حيث قال:”والطير يرقص مذبوحاً من الألم”

على أية حال، ممّا يقرّب هذه المعلقة إلى النفوس هو ما تتمتع به من طراءة وحنان

أنثويين، إلى تحاسين وتزايين تديم فتوّتها ونضارتها، وإلى صورها الشعرية الحاذقة التشكيل.

هذه المعلقة، قضّها بقضيضها، عامرة بالأنوثة. إيقاعاتها تهويدات أمومية حانية. معظم الأفعال بصيغة التأنيث، كذلك الأصوات. لا عجب انْ تنوّعت المعلقة بأمومات نعجز أن نرى لها مثيلاً في نص آخر. أمهات حبالى، أمهات مرضعات، أمهات مطفلات، أمّهات متوحمات باغمات متحننّات، أمهات نائحات…

نظرة خاطفة على رويّ المعلقة: قوامها، كلامها، نعامها، بغامها…تؤكد أنوثة المعلقة. تتداعى فيها الميم إلى كل ما هو يتم وأمومة، وفطام، وبغام، وتوحّم. أما الهاء والألف(ها) فتقومان مقام الآه. وهذه أطول آه في تأريخ الشعر.

وعرضاً، مما زاد في أنوثة المعلقة هو أن صيغة جموع التكسير في اللغة العربية، وما أكثره في هذه القصيدة، تُعامل لغويّاً معاملة المؤنث. مثل قول الشاعر:( خلت الديار، ووقفت أسألها، عُريتْ، وتقطعتْ أسبابها، لا تطيش سهامها)

ليس من هموم هذه المقالة، النظر في معلقة لبيد من ألفها إلى يائها، وإنما الجلّ من طموحها يتمحورفي مقطع واحد من المعلقة ، ألا وهو المقطع الذي يعالج فيه الشاعر، الظبية وضياع ولدها، وأية ذبذبات وإيقاعات موسيقية اشتقّها لتفخيم هذه الصورة الشعرية الموجعة، وتضخيمها.

مهما دار الأمر، وحتى تظهر دقة هذا المشهد، لا بدّ لنا من التعرف على التقنيات التي توسلها الشاعر، وما الفطرة التي دلّته على أعقد الفنون الشعرية وكأنها شعر معاصر.

قبل كل شئ، يمكن القول إنه ما من أمومة ، حقيقية كانت أم مجازية شاعت في نص أدبي، كما شاعت في هذه القصيدة الكبرى، كما ذكرنا أعلاه.

مسرح القصيدة صحراء ووادٍ وجبلان. الجبلان خاليان من البشر، لذا فهما أكثر توحشاً، وصمتهما قاحل مترب. الصمت قَلِق بحجم صحراء. السماء مرعدة مربدة. المعلقة، ربما لأوّل مرّة في تأريخ الشعر، تنتظم فصول السنة الأربعة. ما من قصيدة أخرى حدّ علمي عالجت الفصول الأربعة في نصّ شعري واحد. أكثر من ذلك تتخلق الصور الشعرية في هذه المعلقة بأخلاق الفصول.أي أنّ الطبيعة تتجاوب مع الحالات النفسية لما يمرّ به الإنسان. حزناً بحزن وفرحاً بفرح. من الطريف أن نذكر أنّ هذا المفهوم أيْ تجاوب الطبيعة مع الإنسان تطور في العصر الأليزابيثي بإنكلترا فأصبح عقيدة، وظفها شيكسبير فنّيّاً فبلغت أنبغ نضجها، وأعتى عنفها في مسرحية الملك لير.

يبدأ الشاعر فصول قصيدته بفصل الشتاء، حيث تتجاوب فيه أرزام الرعود. الغريب إن من تداعيات معنى كلمة أرزم: صوّت. يقال: أرزمت الناقة:حنّت على ولدها، أيْ صوّتت حنيناً على ولدها”.

قد يكون من المفيد أن نذكر بمناسبة ورود مصطلح الإرزام بعض خصال لبيد في التأليف الشعري.

فهو أوّلاً غالباً ما يضمّن صوره الشعرية أمومة ما، فيشيع فيها الحنان واللين. ثانياً

كثيراً ما يرافق تلك الصور صوت، بغاماً كان أم تحنناً. بهذه الوسيلة إنما يعطي الشاعر للصورة البصرية بعداً موسيقيّاً

حانياً، أيْ بعداً سمعيّاً كما سنرى. ثالثاً زدْ على ذلك قدرته المدهشة في استخدام اللون لدرجة أنه شبّه

ناقته وهي مسرعة بغيمة حمراء. أمّا لونه المفضّل فهو الأبيض، ولا يدلّ هنا على البراءة دائماً شأنه شأن الأدب السومري والإنكليزي..

على أية حال، قليلون جدّاً هم الشعراء الذين يتمتعون بهذا الثراء المدهش في استعمال الحواس، وأقلّ

من ذلك مَنْ وُلدوا بهذه الفطرة الشعرية المعجبة.

نهض المشهد الأوّل على صوت رعد، إيذانًاً بعملية خلقٍ، وإنجاب. كان بمثابة الضربات التي تسبق إزاحة الستارة عن خشبة المسرح.

اشتركت في عملية التمثيل والإخصاب هذه، السماء والهواء والأرض. عندها تخصبت الأرض بماء السماء، تفتحت الأشجار “فروع الأيهقان”. كذا وُلِد الربيع المزدهى. فُرشت الأرض باخضرار،لآستقبال الظباء المطفلات، والنعام الساهر على بيضه.

فعلا فروع الأيقهان وأطفلتْ

بالجهلتين ظباؤها ونعامها

والِعين ساكنة على أطلائها

عوذاً تأجّل بالفضاء بهامها”

(الجهلتان جانبا الوادي. والعوّذ الحديثات النتاج، والفضاء الصحراء، والبهام القطيع)

صور فتيّة، والأهم آمنة لأنها خالية من مخالب السنوريات، وأنيابها، وخالية أيضاً من قوس وسهام البشر. الطبيعة بأرقّ صورها.ظباء مرضعات ونبات تتفتح براعمه، وتمرح ألوانه.

بهذا الزفاف الحافل الذي اشتركت فيه السماء والأرض والهواء، تظهر، أو ربما الأفضل القول تولد في ذاكرة راوية المعلقة حبيبته “نوار” صاحبة النظرة الحانية. توقيت ظهور نوار مهمّ. كأنها من مولودات الربيع، ومن أزاهيره.

من المفارقات الفنيّة الدقيقة، إن راوية المعلقة شبّه دخول نوار إلى هودجها، بدخول الظبي إلى كناسه ( مولج في الشجر يأوي إليه الظبي ليستتر) ، وشبّه نظرتها الحانية في الوداع، بنظرة ظباء وجرة، “في حال ترحمّها على أولادها، أو في حال عطفها أعناقها، للنظر إلى أولادها. أكثر من ذلك كان راوية القصيدة يسمع صرير الخيام المحمولة لجدتها”. إذن لم تكن المسافة بينه وبين نوار بعيدة:

شاقتك ظُعْن الحيّ حين تحملوا

فتكنسوا قطناً تُصرّ خيامها

...وظباء وجرة عطّفاً أرءامها..)

الفصول تدور. فما أنْ حلّ الصيف حتى حلّ معه القحط والجوع والعطش. لا بدّ من ورود الماء. الظبية في حيرة. الوحوش والرماة بالمرصاد. الظبية بين فخّ وفخّ. ولكنْ لا بدّ من إطفاء العطش. نغبة الماء في الصحراء مغامرة.. تتقلص الحياة إلى أصغر معادلة. إما الموت عطشاً، أو الموت بسهم رائش، أو مخلب ناهش. أختار الشاعر لهذا المشهد، فصل الصيف، وفيه تبطؤ الحركة، ويزداد أوار العطش، لكن لا بدّ للظبية من السرعة. كلّ دقيقة تمرّ يتماثل لها مصير ولدها. كذا ولد الصراع مع الزمن.

قد يكون ما حدث بالصحراء، مشهداً عاديّاً ومتكرراً، أعني ظبية تفقد ولدها. لكن ما الأفانين Devices

ما التقنيات التي توسّلها لبيد، فجعله من أكثر المشاهد الأدبية مأساوية، ومن أشدّها إيلاماً؟

كانت الظبية لاهية مع صويحباتها، ترعى آمنة، و تركت ولدها وحيداً. بهذه الصورة المطمئنة،

إنما كان الشاعر يصوّر “الهدوء الذي يسبق العاصفة”. بهذه الوسيلة خلق أوّل ما خلق عنصريْ المفاجأة والتناقض. الشئ بالشئ يذكر، ربما ورثت المغنية العراقية الشعبية هذا المعنى أيْ ارتباط اللهو بالضياع، فما زالت تغنّي بصوت لاعج، ودمع مائج:”سوده شلهّاني” أي اللعنة السوداء علي، ما الذي ألهاني عنك. كلُّ وأليفه معه، إلاأنا ولفي ضائع)

من أفانين الشاعر الأخرى، هو الـ : Setting أيْ فضاء أو مسرح الحدث. توسعت المأساة بتوسع الصحراء، أي أن العثور على الولد الضائع أصبح أشقّ وأمرّ. الصحراء كما هو معروف :كلها طريق وليس فيها طريق. الصحراء بلا جهات. الظبية الأمّ في دردور. تركض من هنا، لا من هناك،

من هنا ، لا من هناك. عيناها ممتلئتان بالهلع، ورأسها يدوّم، ويرتطم بهذا الفراغ، وذاك الفراغ. كل دقيقة تطيّر جديد. الظبية تبحث عن ولدهاعكس الساعة:” ِ Against the clockكما يقال بالإنكليزية. حلقة مفرغة يتصارع فيها ،الأمل واليأس إحباط بالكامل!Frustration (1) وهي تطوف وتبغم:”طوفها وبغامها”. (يُقال بغمت الظبية: صوّتتْ إلى ولدها بألين صوتها).

( للخنساء صورة شعرية مشابهة تقول:

“حنينُ والهةٍ ضلّت أليفتها

لها حنيان إصغار وإكبار”

(يقال : أصغرت الناقة وأكبرتْ، جاءت بحنينها خفيضاً وعالياً” (أساس البلاغة)

صوّر راوية القصيدة بمهارة وحذاقة جؤذراً أبيض من بعيد ملقى على الأرض.

ركضت الظبية بأسرع ما يمكن. عسى ولعلّ. المفاجأة أكبر وسوء الطالع أشد. فإذا بالجؤذر بقايا أشلاء مقطعة منهوشة مسبوعة.

ما دلالة هذا الجؤذر؟ وما دلالة لونه؟ وما أهمية توقيته؟

أكثر من ذلك جعل الشاعر ، تلك الظبية المنكوبة تبحث في الصحراء المترامية سبعة أيّام بلياليها. وهذه أطول مأساة في تأريخ الشعر، لاتعدلها إلا مأساة كلكامش الذي أبقى على رفاة أنكيدو سبعة أيام بلياليها، عسى أن تدبّ فيها الحياة، ويُنفخ في الصور.

كانت تلك المشاهد أعلاه بمثابة عدة الرسام التي عليه ان يرسم منها لوحته الفنيّة.

إذن لنتابع الشاعر وهو يضع لمساته الشعرية كما وردت في المعلقة.

أوّلاً يستهلّ الشاعر هذا المقطع بمقارنة ناقته في سرعتها ، بسرعة ظبية مسبوعة (أيْ أصابها السبع

بافتراس ولدهها). وأثناء طوفها وبغامها ولهاثها تعثر على جؤذر صغير أبيض ممزق الأشلاء . بهذه الأفنونة أو الحيلة الفنية، أضاف الشاعر عنصر التطيّر إلى عنصر القلق، فإذا هما مضفوران بإيلام أكبر.

أخذ اليأس يدبّ شيئا فشيئاً، فلا عجب أن قال راوية القصيدة :”إنّ المنايا لا تطيش سهامها”.

و لكنْ حتى تكتمل الصورة المأتمية، لا بدّ من دموع، حتى ولو كانت مطراً، ولابد من نواح حتى ولو كان هزيم رعد. تفجعت السماء، فإذا بديمة أيْ مطرة، دائمة الهطلان (تسجامها). والطريف يقال سجم الدمع أيْ صبّه فانصبّ، لدرجة جعلت الظبية تأوي إلى “جوف أصل شجرة” طيلة الليل، لتقي نفسها من البرد والمطر.

لكنْ كيف نامت الظبية تلك الليلة؟ هل أرقت؟ هل جزّعتها الكوابيس؟.

مهما دار الأمر، لا بدّ كانت ليلة مؤرقة. استيقظت الظبية مترنحة Giddy لا تقوى أرجلها على حملها.

يعزو الزوزني ذلك إلى “التراب النديّ لكثرة المطر الذي أصابه ليلاً”. ربّما. لكن ربّما أيضاً أن الظبية كانت تحت غياية الإجهاد والكوابيس والجزع.

ها هي إذن تترنح وتتحيّر وتتعمّه. ويوماً بعد يوم نشف ضرعها ولا عجب، فما من ولد ترضعه أو تفطمه (لم يبله إرضاعها وفطامها)

بهذه الأمومة المنكوبة، باتت الظبية نهب هواجس، فآختلّت حواسها. ها هي الآن ترتعد. سمعت صوتاً “عن ظهر غيب”. صوتاً خفيّاً(رزّا). من أين جاء؟ هل كان صوتاً فعلاً أم خيّل لها؟ هل كان صوت إنس؟ أم صوت وحش؟ ما الفرق بين الصائد والوحش؟ تلتفت يمنة، وتلتفت يسرة وهي لا تدري أمن خلفها جاء الصوت أم من أمامها. كأنْ دخلها الخبال. رأسها يدور بأغرب دوّامة. ما من منجى.

***

يبدو أن لبيد أوّل شاعر على الإطلاق، انتصر للحيوان (الظبية) من وحشية الإنسان.

***

المشهد الثاني تنجو الظبية من سهام الرماة، فيرسلون عليها كلاباّ مسترخيات الآذان، ضامرات البطون. دافعت الظبية باستماتة، فقتلت الكلبة المسماة كسابِ أوّلاً، ثمّ قتلت سخامِ الكلبة الثانية:

فتقصّدت منها كساب فضرّجت

بدم وغودر في المكرّ سخاُمها

عند هذا المشهد الدامي، تظهر نوار مرة ثانية.

لماذا بهذا التوقيت المضرّج بحمرة الدم؟

ذكرنا أن نوار وُلِدت لأوّل مرة في ذاكرة الشاعر، مع آنهلالة الربيع، وكانت على وشك الرحيل.

ذكرنا كذلك أن نوارتميّزتْ، وهي تأوي إلى هودجها بنظرة عطوف، فذكّرت راوية المعلقة بظباء وجرة وهن يعطفن رقابهنّ للنظر بأمومة وحنان إلى أولادهن. كانت الظبية في ذلك الحين لاهية مع صويحباتها.

إلاّ أنّ الصورة انعكست في هذا المشهد. الظبية وحيدة الآن بلا لدات، وبلا ولد. يبس ضرعها الذي

كان ممتلئاً بالحليب، فما من آبن ترضعه أو تفطمه.المفارقة الثانية هي أن الظبية الآن هي التي تذكّر الشاعر بحبيبته نوار؟

هل كانت الظبية ونوار مخلوقة واحدة قامت بدورين في ذاكرة الشاعر؟ هل كان ألم الظبية جرّاء ضياع ولدها ، معادلاً لألم الشاعر جراء فراق نوار؟

***

أيتها الظباء المذعورات إنّ شاعركنّ الحنون لبيد مدفون برمال الكوفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عتمدتْ هذه المقالة على شرح الزوزني

1- تفتقر  القواميس العربية وكذلك القواميس المعنية بالترجمة إلى صيغة دقيقة لهذا المصطلح. و”إحباط” أهون الشرّيْن ولكنها كلمة لا تفي بالغرض قطعاً. المعنى الدقيق لهذا المصطلح Frustrationعمليّاً هو الحالة بين الأمل واليأس. فهو من ناحية، أمل لايخلو من يأس ومن ناحية أخرى يأس فيه بعض أمل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *