لِنُغذِّ أَدْمغَتَنا بالشِّعر (بمناسبة اليوم العالمي للشعر)

الشاعر والكاتب: منير الإدريسي | المغرب

لِنُغذِّ أَدْمغَتَنا بالشِّعر
(بمناسبة اليوم العالمي للشعر)

1
تغذية الدّماغ بقراءة أو كتابة القصيدة تنقذ حياتنا من الابتذال. تضع في أيدينا نبيذاً طيّباً يُسكرنا. يُسكرنا حتَّى بالألم نفسه. تُقوّي مناعتنا من القبح المحيط بنا. تجعل من الحياة ظلاًّ مرغوباً فيه، مشتهى ولو للحظة. الذين يقفون باردين أمام باب الشّعر دون طرق، أو بطرق خفيف فقط، تعوزهم التجربة. تلك التجربة الجوّانية التي هي منبع سرٍّ رهيب. يعوزهم الحظ، ويعوز أدمغتهم هذا النّسغ.
اليوم العالمي للشّعر قد يكون لهؤلاء دعوة رقيقة، إنسانية. حضارية بمعنى أكبر وأوسع. فالتحضّر لا يقاس بالتكنولوجيا، بالروبوتات والأبراج العالية التي بلا نظير، بل بالقيم الرفيعة، تتجاوز الميل إلى الحسّ الأخلاقي في السلوك هذه المرّة، إلى التخلّق بالنظرة الجمالية إلى الوجود. العثورُ على أسلوبٍ للنظرة يتيحهُ الشّعر، نظرة صافية، لا نظرة أثقلها العالم. هي دعوة للوقوف لحظة مع النّفس ليس للّوم ولا للتَّحسُّر، ولا لاسترجاع تثاؤب غبطة في ظلالِ الذاكرة، بل دعوة للانتباه، لليقظة، يقظة الوعي الشعري بالكون. أي العودة إلى البدايات، وتذوّق سحر هذه العودة.

2
يمنحنا الشّعرُ فسحةً لنتعرّف أكثر على ذواتنا وأشياء الوجود. خارجَ ما قُدّمَ لنا، كمعرفة أو أساس معرفة. يبسطُ أرض سماء موجودات وأفكار لم نكن لنبلغها بأيّة أجنحة دون لُغته، أرض سماء من جليد، تستدعي أحاسيسنا الأكثر صفاء، القابعة أسفلْ، إلى هذا العلوّ، للتزحلق بيُسر في بياض صلبٍ مُتماسك، وإلى تجريب ما كنّا نظنُّ أنّه بلا خاصية كهذه، أو أفق.
يَسْعَى الشِّعرُ بذلك إلى تذكيرنا بأننا لسنا حاويات معرفة، بل كيان تجربة أعلى، مفعمة بانفعال جليٍّ في الكشف والدهشة والخيال. تجربة للتجاوز واختبار اللاّ محدود فينا. تجربة انبهار، تتأسّسُ على خلاصاتٍ أشفّ، وأعمق، للوجودِ.

3
الشِّعرُ بذلك ليس وصفةً لسعادة التّجاوُزِ هذه فقط، بل تقويضاً لعالَمٍ قائم على أعمدةٍ غير شعرية، عالم قائم على تحجّر الوعي وعلى استغلاقٍ معرفيٍّ، على تحديداتٍ نهائية، كما على يقينيات جاهزة.
الشّاعرُ، بالذّات، تجسيدٌ لهذا التّقويض، لهذا التمرّد. القارئ الحقيقيُّ، بالعدوى هو أيضا تجسيدٌ لذلك. ذاك الذي تشترطُ فيه تلك الحقيقة، حقيقة قارئ يكتبُ بالقراءة ويتنفّسُ بها.
لا يشيرُ معنى التقويض إلى أنّ الشّعر في خندق مواجهة مُباشرة مُعلنة مع عدوّ، بل يملكُ الشّعر جسارةً أهم، إنّه يعملُ. يتحقّقُ، يكونُ، مُهيّئا لنا تلك الوثبة، فاتحا حيّزاً لممكنٍ أكيدٍ لا نهائيٍّ في النّصِ، في ما وراءَهُ، وما بعدَهُ أيضا. هذا الممكن الآخر، يمكن إحساسه بالجلد كقشعريرةٍ باردة.

4
الدَّعوةُ إلى الشّعر، هي دعوة إلى اختراق الحدود والأسيجة الشائكة بين الأنا والآخر، بين الأنا والكائنات جميعها أيضا، بما في ذلك الطبيعة. هي الذّوَبان في نقطة ضوء تسقط بهدوء على الورقة. بحيث يطأ حنينٌ بثقله على النّفس، حنينٌ إلى أعماقٍ سريّة المنبع، احتشدت من أجل الإشارة إليها جُمَلٌ من العلامات والرموز والبياضات.. أعماق تطفحُ كبئر، ولا تنضب.
ليس القصد أنّنا نتشارك هذه الأعماق. بل نحنُ إيّاها، كينونتُنا النائمة التي لا تتجزأ.

5
الشعرُ ذاك الفكر النقيّ، بلا ثقل مفاهيم، إنّه الرؤيا بما هي كشف واستجلاء. لذلك فللشّعر قرابات مع غيره، الموسيقى وكلّ الفنون التعبيرية، التفكير التأمُّلي والفلسفة، كما أنّه صنو العلم، الفزياء تحديداً. هما معاً يوسّعان البحث في غموض الطبيعة والقلق الوجوديّ، من كلا البُعدين؛ محاولة منهما لمس الستارة الكونية التي تخفي سرّاً لم يكفّ أبداً عن مُهمّته الأبدية كسرّ. ينطق العلم في هذا الشأن بنصف الحقيقة، في نظرياتٍ معيارُ قوّتها قابِليَّتُها للتكذيب. النصف الآخر يشغله الحدس. مُعجزة الشّعر هي في إثارة هذه المساحة الصامتة التي يُمَسُّ فيها العلم بالخَرس. إثارتها كشرارة حدوس.

6
بالنسبة للشاعر، كل لحظة هي لحظة شعر، كل وجود هو شعر. بالنسبة للعالَم وتصوّره الذهني لا يوجد الشّعر إلاّ في ذلك الهامش القصيّ، أي في حيّز المُهمل. فالشراهة الرأسمالية ومسلكها الأنانيُّ دعسا كل القيم، واستحوذَا بشراسة قاسية على الطبيعة، وسَحقا الفرد.
يميلُ العالَمُ اليوم إلى التّفاهة (فردوسُ الأغبياء)، إلى صناعتها والتسويق لها. يميل إلى فرض أفكاره هذه على كلّ شيء، بما في ذلك الفنّ، محطّما حسّ النّقد، ناسخاً نسخاً نَهماً ما يبدو أنّه على مثاله.
الشّعرُ المُتمنّع وحدهُ، يُمكنه بما اكتسبه من حريّة، أن يسبح عكس التيّار كسمكة السلمون. لقد امتلك مع الطّفرات والزّمن هذه الزعانف وتلك المرونة؛ التي يُفترضُ، أن تمتلكها عقولنا أيضا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *