طالب عبدالعزيز – قصائد
طالب عبدالعزيز – قصائد
الى امرأة
تعالي، نحتكمُ الى شجرةِ الآس،
التي أنبَّتها في الحُلمِ، قبل ثلاثين عاماً
أنتِ تضعين غصناً، ظاهراً منها
في حقيبتك ..
وانا أتامل الغصنَ المقطوع
وهو ينمو ثانيةً.
******
أضعُ يدي في الموضعِ الذي كانَ لكِ مَنامةً ..
وأصيحُ بالحُلم : أيّها المتحققُّ في الخَفاء
أيّها المظنُونُ في الوسائدْ..
لقدْ أسقطَ التذلّلُ شجرةَ النسيان.
*****
ما كنتُ متعجِّلاً ، أبداً
لكنَّ المارَّة يحفرونَ الجِّسرَ بأقدامِهم.
على سُوُرهِ أنْ ينتظرَ مثلي،
وعليَّ أنْ أحْصي التائهينَ، العائدينَ
من النأيِّ والخيانات ..
لا تحدثيني عن الترابِ العالقِ بتنورتِك
عن قلم الحمرةِ،
أخفق بتسوية شفتك السفلى
سأحدِّثُك عن المصطبة
التي أتلفتها بانتظاري الطويل.
قصيدة صغيرة
أُؤثثُ للرصيفِ أغنيةً بلهاءَ ثانيةً
هذا مساءٌ لا ينقضي بالصمت
كلُّ شجرةٍ تسيءُ الظنَّ بي
كلُّ إننتظارٍ يشي بزهرةٍ ذابلة
…..
منذ عامٍ واكثر
وأنا، أحصي الفراشاتِ اليابسة
التي تجتازني الى المقبرة
كما لو أنَّها شيخوخة
تراخيْ، كما يحلوَ لكِ أيّتها الاصابعُ
ما عدتُ ممسكاً بالمفاتيحِ كما يجب
واصطفقي طويلاً أيّتها الشَّبابيك
فأنا لا أنتظرُ أحداً ..
وكوني كما يطيبُ لكِ، يا أشجارَ السَّنةِ الجديدة
مزهرةً، أو غيرَ ذلك..
فقد طارت حمائمُ قلبي كلُّها
ومن اليمين الى الشمال.. أو من الشمال الى اليمين
تبعثري أيّتها الاوراقُ
لا أحدَ يحفلُ بالماضي بعدْ.
والى حيثُ شئتِ اذهبي، ايّتها القطارات
كل الذين انتظرتهم لن يعودوا
أما أنتِ، التي ما زلتُ أتلعثمُ قُبالة صورتِها
يؤلمني أنَّ القبلَ لم تفلحْ بطيِّ خاصرتك ثانيةً
وأنَّ زجاجَ الاملِ يتكسرُ تحتَ قدميكِ، الى الآن
وأنَّ قميصكِ ما زالَ حزيناً، ملقىً
على أريكةِ العائدينَ من الحُلم.
حلم قصير جدا.
أمسِ، حينَ مررتُ بكَ
كانتْ رائحةُ نهرٍ مندرسٍ
تنبعثُ من ثيابِك …
الطحلبُ يغمرُ وجهَك الليلي
والمباهجُ بعضٌ مما غادرك
الى السباخ ..
الآنَ، أبحثُ عن نسيانِك
في مُروءَةِ الوقت
لكنَّ ذراعَكَ حملتْني عالياً
عالياً.. جداً ، واسقطتني
كنتُ الجِذعَ الطريَّ
الذي كسرتْ ظهرَه العاصفةُ البارحة.
طفلُ رثٌّ وغامضٌ
مرةً، وفي حديقةٍ عامّةٍ، مَرضِتُ ..
إحداهنَّ، وبشجرةٍ عاليةٍ جدّاً
علّقتْ قلبي .. ومضتْ
فرِحتُ بتجمّعِ النّاسِ حولي ..
حتى أنّني لم أشعرْ بوخزِ الدبّوس ..
كانتْ حكايةً تافهةً، وسخيفةً أيضاً
أعرفُ ذلكَ، لهذا
أنا اليومَ طفلٌ رثٌّ وغامضْ.
2
من نافذةِ الباصِ، أو من شرفةٍ مهجورة.
يمكنُني التجدّيفَ على أياميَ
التي أمضيتُها في المدينةِ العاهرِ هذه.
4
اعرفُ، أشياءَ كثيرةً عنّي :
فقد رأيتُني ميْتاً في صورةٍ نادرةٍ،
أحدُهم تحدّاني. قالَ:كيفَ؟
فدخلتُ غِمداً طويلاً ..
وأسلمتُ لهُ الروحَ.
5
أعرفُ أنْ ارفعَ السكِّينَ عالياً
لتُحدثَ جُرحاً في الهواء ..
مثلما أعرفُ كيفَ أبدوَ طائراً
لأنَّ أحدَهم تحدَّثَ عن الرِّيحِ
التي ستهبُّ .
6
اتقوسُ، نعمْ. وأنثني أحياناً
ذلك، لأنّني خارجٌ من غِمدْ .
7
وبأشياءَ تافهةٍ أخرى يمكنُني
أنْ أصبحَ مسروراً ..
وبأشياءَ كثير ةٍ، تافهةٍ، أيضاً
يمكنُني أنْ أحيا ..
فلا أذبُلُ في وردةٍ اصطناعية .
8
وأعرفُ كيفَ أكونُ ميْتاً
في لحظةِ عناقٍ كاذبةٍ
هكذا، وببساطةٍ جدّاً :
كما لو أنني في حُلمٍ
وقد نسيتُ رقبتي عندَّ القصّاب .
9
المسافةُ الى هناكَ قصيرةٌ جداً
مثل خطوطٍ زرقٍ في أطالسَ قديمة،
علينا اختصارَ الطريقِ اليها
بطوفٍ من الخشبِ،
أو بجفنٍ من الدُّموع .
10
ألا ترى معي
بأنَّ حياةً مُخزيةً كهذهِ
حريٌّ بنا ألا نكملها ؟
11
من السُّخفِ، أنْ يجمعكَ مجلسٌ
مع خنزيرٍ وحشيٍّ
ولا تجرؤ على القَبولِ
ببقرِ بطنك .
12
الحقَّ اقولُ:
موعدٌ واحدٌ مع الموتِ
لا يكفي للخلاصِ
من بذاءاتٍ كهذه.
في مثل لحظة الموت هذه
لا أعلمُ، ما إذا كنتُ
سأصلُ بقدمي هذهِ أم تلك؟
فالمسافةُ الى المَقبرةِ على وفقِ مشيئةِ الجسد ..
وما كنتُ أبلغهُ بالامسِ، لم يعدْ
صار أبعدَ من نقّالة المستشفى
عن مصابٍ بحادثٍ على الطريق ..
ما دمدم غيرُ الرَّعدِ
لكنَّ كراسيَ المنتظرينَ في المَبنى المجاور ِ
تزحزحتْ قليلاً ،
حتى أنَّ امرأةً سألتني :
ما إذا كنتُ شعَرتُ بتكسّرِ صوتِها
في قدحِ الزُّجاج ،
هذا لا يعني بأنَّ زلزالاً وقعَ،
أو حرباً تدورُ رحاها في القريب ..
أبداً، إذْ كلُّ شيءٍ ما زالَ قائماً
بما فيه يافطةُ انتظارِ السيّداتِ في عِيادة الطبيب
إنَّما أحدُهم، قال كلمةً قاسيةً بحقِّ النَّهارِ،
ربّما لم يوفَّق برسمِ شاربهِ على المرآة
أو خذلتهُ ذراعُه في لحظةِ تدوينِ الحقيقة
أمَّا الطفلُ الذي أرشدتُهُ لبائعةٍ الزهور
فقد سبقني الى المقبرة
أحدُهم أغراهُ بالصمتِ الذي هناك.
هي وهو ..
هي
لو كنتُ امرأةً من البصرة
لقبلّتك في الشارع، أمام الذاهبينَ الى الدنيا
لكنني، صبيَّةٌ من أهل الزبير
سمراءُ ، وبابُ بيتنا خشبٌ ونحاس
أكتفي بالرّقص في المنزل،
وأضمنُ لمن أحبُّ القبّلة في السرير.
هو
لو كنتُ رجلاً من العامّة
لوقفتُ بانتظاركِ قربَ بائعِ الاحذية
ريثما يُصلحُ شأنَ حذائك .
لكنني، امرؤ من سلالةِ أشرافٍ، ملّاكين
أقفُ على الشُّرفة مساءَ كلِّ يوم ،
أمنحُ المارَّة نظرتي ..
التي تقودهم الى النَّهر.
هي
لو كنتُ مغنيةً في مَلهى ليليّ
لأخذتُ مجلسيَ عند طاولتك
أصارحُكَ كأسَك الاخيرة، وأسمعُك أغنيتي
التي تحبُّ ..
لكنني امرأةٌ من الحجاز
يدخلُ الأمراءُ، صاغرينَ على أبي
فأنا أرعى إبلهُ في النَّهار
وأبكي حبيباً مقتولاً في فراشي
كلَّ ليلة.
هو
لو كنتُ مُحقّقَ مخطوطاتٍ كفيفٍ
لكتبتُ تقريظاً لعينيكِ المُبصرتين
ولمجدَّتُ إسمكَ في ديباجة كلِّ كتاب
لكنني فلّاح من أبي الخصيب
أصعدُ النخل في نهاراتِ القيظ
وانزلُ الماءَ، في الليل، صيّاداً للسمك
أقصى مناي أن تُحبّني امرأةٌ
من أهل العراق .
هي
لو كنتُ زوجةَ إمامِ المسجد
لطلبتُ منك أنْ تصلّي خلفهُ ..
وألا تتبرمَ من قنوته في صلاةِ الفجر
فهو ما زال على مذهب إمام الكاظمين
لكنني أستاذةُ الكيمياء ..
أعرفُ العناصرَ، ما إرتضى بذاته ونأى
وما انجذبَ منها واندمج
فلا أتركُ المختبرَ إلا ساعةً من نهار ٍ،
القِّنُ خَزانة ثيابيَ درساً في الفقدان.
في رثاءِ ما سيأتي
في حافظةِ الايامِ والليالي …
ما الذي سأفعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ لي ؟
أستقلُ حافلةً في مدينةٍ لا أعرفها ؟
أزورُ مُتحفاً، يُطالعني وجهي في زجاجِ مقتنياته ؟
أكتبُ قصيدةً جديدةً لنْ يحفلَ بها أحدٌ .. ؟
أقرأ فصلاً في كتابٍ عن السعادة ..؟
أحبُّ امراةً التقيتُها في عيادةِ الطبيب ..؟
أشاهدُ فيلماً مرعباً آخرَ..؟
ما الذي سأفعلهُ بالخمسِ الباقياتِ لي ياترى؟
أغرسُ شجرةً لن أتفياها ذاتَ يوم ؟
أركبُ بحراً سأكونُ الناجيَ الوحيدَ فيه ؟
أسكنُ جزيرةً مُوحشةً أخرى ؟
أُكملُ لعبةً الكترونية مات عنها أبطالُها ؟
أقبّل قدمَ حفيدي التي لن يعدوَ بها خلفي ؟
الوقتُ مغلقٌ جداً، وضيقٌ مثلَ حبّةِ فاصولياء ..
ما الذي سافعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ
وقد دارت على يدي رحى خمسٍ وستينَ قبلها ؟
لم أعشقْ فيها المراة التي طلبت
ولم أكتبْ فيها القصيدةَ التي أردت
ولم أقرأ فيها الكتابَ الذي أحببت
ولم اسمع فيها الاغنيةَ التي تشوقت
ولم يأتني أحدٌ بصندوقِ النجومِ، حيثُ وعدّت
خمسٌ وستون مضت، هكذا
مثلَ خمسٍ وستين موجةً غبية ارتطمت بالشاطئ
مثلَ خمسٍ وستينَ حبّةَ رملٍ
في شاحنةٍ كبيرة.
في الطريق إلى بيروت
لا تَطْوي المرآةُ الشَّجرَ في الطريقِ الى بيروت
مائلةً ،تنسحبُ الصورةُ حتى البحرِ،
الذي تنفسهُ الليلُ من ساعةٍ..
ومن الشُّرفةِ التي نصفُها غيمةٌ في البعيد
تبدو الستائرُ هدلاءَ خارجَ العاصفة،
وفيما الظلام يلفُّ الموج نازلاً من الحاناتِ
والسراويلِ القصيرة ..
لم يوقفِ السائقُ قاشطةَ البَرَدِ على الزُّجاجِ،
المزاليجُ تطردُ عِهْنَ السَّماءِ،
عَجْلاءَ تمحُو خرائطَ الرِّيحِ، تكتبُ ما نسمعُ
تعِبتُ أساقِطُها النَّظرَ من اليمينِ إلى الشَّمالِ إلى النافذة.
وهذا الشَّجرُ، الأرزُ كما في البيارقِ أخضرُ
أخضرُ على القبّعات..
لكنَّهُ في أصيصٍ بواجِهةِ الفنّدقِ نائمٌ
لكأنَّهُ لم يكنِ البارحة .
***
السائقُ ينظِّمُ آلتهُ، تميلُ قليلاً،
مع ما ظلَّ من المساءِ عندَ بائعةِ المتّجَرِ
يشتري سجقاً،
ثمةَ وقتٌ لتأمُلِ ما يجبُ
ومن فُرجةٍ في القميصِ تبدو الكنائسُ تنحدرُ
مثلُ الجنوبِ إلى صُور، حيثُ المُتحَفُ، أعلى الهَضَبةِ
بارداً بالرسوم وبالتماثيل.
الكرنتينة، بيت حمّود، جونيه…
لم نختبرِ السَّلالم الى الجبلِ النَّازلِ من البيوت،
لم ننتظرْ في المحطة ساعتين..
متعجلاً كانَ الثلجُ ينقذفُ أعلى من طاولة المقهى.
ماءٌ مالحٌ يطيشُ بينَ المقاعدِ،
وهذا البَرَدُ واثبٌ يقْضِمُ فُسحَةَ العُشبِ
أسفلَ النَّافذة.
***
من قِماشةِ الإعلانِ ومن الغيم أيضاً
عارياتٍ، الفتياتُ يقفزنَّ على الرَّصيف
فيتمزقُ لونُ الجينز،
تطيرُ حقائبُ وتحطُّ كولسوناتٌ صغيرة..
هذهِ الريحُ آخذةٌ طريقها إلى البَّحرِ
يضيقُ عنَّدَ الرُّوشةِ قليلا ..
كلُّ شَجرةٍ للميلادِ حمراءُ في الحمْرا
كلُّ قُمْصانِ الفتيَّةِ بيضاءُ ضاجَّة،
سودٌ قفاطينُ النُّسوةِ على الرَّصيفِ
وبالإفرنجيةِ الدَّارجةِ يخطُّونَ أغلفةَ الحقائِب،
ماركاتِ عُلبِ الماكياج،
وأسماءَ الضَّواحي النَّائية.
ولكي لا تظلَّ رائحةُ النبيذِ بفمِك طويلاً
عنّدَ محطّةِ الوقودِ يبيعوُنكَ اللُّبانَ مُرَّاً ومُحَلّى
الفتيةُ تركوا العاشُوراءَ في الضَّاحيةِ،
عند الشَّيخِ وجاءوا،
خرجوا من المَرْج على طاعةِ المَرْج
وحتّى المغارة، على الطريق التي كانت غابةً
الفتياتُ يُسْرعنَّ بالمطرِ والقبّعات..
لكنَّ مُفترقَ العِطرِ يأتي من الجنوب دائماً.
ليبتهجَ الماءُ بذكرى انثيالهِ من القوارير.
***
كلُّ بحرٍ في بيروتَ ينصرفُ أزرقَ، باذخاً
كلُّ حانةٍ تنغلقُ ثمِلةً على أخْتِها
ولأنَّ السَّماءَ بلا سَبَبٍ تغيمُ هُناك
كانتِ المريّماتُ أعلى الجَّبلِ، يَهبِطنَ من ضُحى الكنيسَةِ
الى مساءٍ من سَجَق ونبيذ ..
الخارجونَ من زُخْرفِ الحَجرِ في الآحادِ
واقفونَ على البَّحرِ..
حيثُ لم يَعُدِ المذبحُ أخضرَ عنّدَ مَدْخلِ المغَارة
أفْسَدتِ الرّيحُ كياسةَ القادمينَ مِنه..
وَسِوى الذي سقطَ البارحَةَ على الجبلِ
لم يسقُطِ الثَّلجُ على بيروت.
لكنَّ الأودِيةَ تعْرى والشَّجرَ يزرقُّ عالياً
وإلى حيثُ يمْضِي الحَواريّونَ الجُدد
ظلَّ الليلُ مطراً ونبيذاً وقبّعات.
وكما لو أنَّها من عطرٍ وموسيقى
اكمَلتِ النَّادلةُ ليلتها بقفطانٍ أسودَ سميكٍ
كانت الرِّيحُ توشكُ والفجرَ،
الذي وقفَ طويلاً على الشبابيك، هُناكَ،
حيثُ يبدُو الجبلُ مثقوباً من الأعلى…