بين الشيخ والمُريد
حسين السكّاف
تحت سقيفة مصنوعة من خُوص النخيل، وعلى حافة ساقية لا أحد يعرف عمرها، يجلس الشيخ متأملاً جمرات موقده… وفي الجهة الأخرى من الموقد يجلس مريده الشاب الذي صار يتململ منذ لحظات وكأنه يريد البوح بشيء يقلقه.
الشيخ المتأمل بالجمرات، يرفع رأسه وينظر بوجه الشاب مبتسماً، يتأمله، ثم يقول بصوت خافت:
– تكلم أيها الصديق النبيل، ما الذي يقلقك؟
– يا شيخنا، أعذر لي جهلي، وقلة حيلتي…
– لا عليك، تكلم يا بني!
– يا شيخنا، أكاد أنفجر غضباً، ما الذي يجري؟ لماذا نعيش الحضيض ولم نقترف ذنباً؟ لماذا نحن مهانون؟ كبيرنا وصغيرنا مهان ويشعر بالذنب وهو متأكد من نظافة يديه؟ لماذا بتنا نعيش هذه الحالة المزرية، أين تكمن المشكلة؟
يضحك الشيخ وهو ينظر بشفقة نحو المريد… يهمهم، ثم يقول سائلاً:
– وكأنك تبحث عن شيء ضائع، هل تبحث عن المشكلة نفسها، أم عن مخبئها الذي تكمن فيه؟
يتململ المريد، وهو يظهر بعض الضجر ويقول:
– هل تهزأ بي أيها الشيخ الجليل، وأنت ترى غضبي؟
يعتدل الشيخ بجلسته، ويقول بجدية واضحة:
– كلا.. كلا.. أردت فقط أن أهوّن عليك غضبك… ما أثار دهشتي، هو أنك تتكلم بلغة الجمع، وكأنك تشير إلى المجتمع، وقد غاب عن ذهنك أن المجتمع مختلف المستويات في التفكير والأحكام والرؤى والتعلّم… والآن قل لي من فضلك، هل تشعر شخصياً بالإهانة، وأنكَ تعيش الحضيض بالفعل؟
يشعر المريد، وكأنه أستفز على حين غرة، ثم يجيب:
– ليس تماماً، المسألة ليست شخصية جداً…
– إذاً، فإنكَ تشعر بالغبن، كونك تعيش في مجتمع يمكن أن يوجه لك الإهانة في أي وقت، هل أنا على صواب؟
– نعم، بالضبط، وقد أُهينَ الكثير غيري دون ذنب يذكر، رغم رفعة مكانتهم ومقامهم!!
– أفهمك الآن…
قال الشيخ هذا وهو يحاول التقاط شيء من جهة اليسار، حيث يستلقي كيسه المصنوع من القماش. أخرج عود بخور، ودسَّ رأس العود في كومة الجمر التي تتوسط المسافة بينه وبين المريد.. أستلَّ العود ثم نفخ عليه نفخات متقطعة طلباً لإذكاء جمرته.. نظر صوب المريد وعود البخور منتصباً بين إبهام وسبابة يده اليسرى، وقال:
– نحن، “المجتمع“، مجتمعنا بكل فئاته، يفتقر إلى نوعٍ معينٍ من الثقافة، إنها الثقافة الإنسانية، الثقافة التي تختص بدراسة الإنسان دراسة فطرية، أي معرفة الإنسان والتعامل معه على أساس فطرته. نحن نفتقر إلى الثقافة التي تحترم الإنسان ككيان بشري يشاركنا الحياة، وليس كفكرة.. هذا ما ينقص أهلنا… هذه هي المشكلة، أما مكمنها يا صديقي، فهو أرواحنا، الأرواح التي تشاركنا الحياة، ينقصها الثقافة الإنسانية…
– كيف يكون الإنسان فكرة؟..
– الإنسان هو من يصنع الإنسان الآخر كفكرة، وليس كياناً بشرياً قائماً بذاته يتعامل معه على فطرته. فأنت حين تجهد نفسك في محاولات مستمرة لمعرفة المقابل، فأنك تبحث دون أن تدري على فكرة تُلبِسُها لهُ، وهذا ما يقال عنه شيوعاً “تضعه في الميزان” دون أن تدري أنه ميزانكَ أنتَ… فأنتَ تبحث عن أصله، معتقده، قوميته، الفكرة التي يتبناها، وقد تصل إلى أمه وأبيه وتاريخه العائلي، وهذه الطريقة في الحقيقة، هي محاولة لوضع المقابل داخل إطار أو زاوية تسمى بـ “الفكرة“…
– وما العيب في هذا؟.. يطرح الشاب سؤاله بشيء من الحيرة، فيجيبه الشيخ:
– العيب فيه، هو أنك، ونظراً لما تحمله من أفكار وما تؤمن به، ربما تنفر من المقابل أو تكرهه، كون أفكاره أو معتقده أو قوميته، أو حتى تاريخه العائلي، لا يتلاءم مع ما تؤمن به أنتَ…
– وربما أحبه..
– أجل، وهذه هي الإشكالية يا صديقي، تعلَّم أن تحب الإنسان على فطرته، ولا تبحث له عن إطار أو زاوية ضيقة تضعه داخلها، لتدخل في دوامة الـ “ربما“… ربما تحبه، ويكرهه غيرك، أو تكرهه ويحبه غيرك، فيصبح المجتمع فِرق ومجاميع تحب بعضها وتكره غيرها كما هو حالنا الآن.. فأنت لا تختلف عن الآخر إلا بإنسانيتكَ ومحبتكَ للآخر، وهذا ما يميز الروح البشرية النقية المتجردة عن كل فكرة، الرافضة لكل الزوايا الضيقة، عن غيرها من الأرواح الجاهلة القابعة تحت فكرة جهلها…
شعر المريد بعذوبة صوت الطائر حيث الشجرة القريبة، نظر بوجه الشيخ مبتسماً، وقال:
– أنا جائع، هل أحضر الطعام؟
– نعم، ولا تنسَ أن تطعم الكلب والطيور من طعامنا قبل أن نأكل نحن
-
*تفصيل من لوحة للفنان غسان فيضي